يسجل تاريخ العلاقات الدولية أن نشأة الدول الحديثة منذ معاهدة «وستفاليا» صاحبها مبدأ أساسي أصبح وكأنه عقيدة مقدسة وهو سيادة الدولة، بمعنى أن للدولة المعترف بها في مجتمع الدول سيادة مطلقة على إقليمها براً وبحراً وجواً. ليس ذلك فقط بل إن من المعاني الأساسية لمبدأ السيادة عدم التدخل في شؤون الدولة من قبل دولة أخرى أو حتى من المجتمع الدولي وذلك في حالات السلم. أما في حالات الحرب فهي تخضع لمبادئ أخرى نظمها بدقة القانون الدولي العام. ويشهد التاريخ خصوصاً تاريخ القرن العشرين أنه قامت حروب كاملة دفاعاً عن سيادة الدول التي أصبح من المسلمات أن المهمة الأولى للنخب الحاكمة هي الحفاظ عليها وإلا زالت الشرعية السياسية لهذه النخب. ولو تأملنا تاريخ العلاقات الدولية في أوروبا على وجه الخصوص لأدركنا أن الذي كان يحمي مبدأ سيادة الدول من الاعتداء هو التوازن الدولي. وذلك بمعنى عدم انفراد دولة كبرى بالقوة التي تسمح لها بإملاء شروطها على دول أخرى. ولذلك كان حين يختل هذا الميزان يفتح الباب واسعاً وعريضاً أمام الاعتداء على سيادة الدول. وهذا ما حدث في الثلاثينات حين صعد هتلر ليصبح مستشار ألمانيا وحاكمها المطلق، والذي أعد بلاده لتكون أمبراطورية جديدة تبسط رواقها على كل بلاد أوروبا بلا استثناء مستنداً في ذلك إلى قوة ألمانيا العسكرية الفائقة التي تجاوزت في مداها القوة العسكرية لكل الدول الأوروبية مجتمعة. وهكذا دفع غرور القوة بهتلر إلى أن يقوم بغزواته العسكرية مستخدماً أسلوب «الهجوم الصاعق» فاكتسح بلجيكا وبعد ذلك انقض على فرنسا التي ظنت وهماً أن خط «ماجينو» الدفاعي يمكن أن يصد عنها أي هجوم، إلا أنه سقط في أيام! بل وصل الطموح الأمبراطوري بهتلر إلى أن عاود غزو الجزر البريطانية بل وغالى في شططه وانطلق ليغزو الاتحاد السوفياتي وكان في ذلك مصرعه بالمعنى التاريخي للكلمة بعد أن نجح ستالين في أن يستنهض الشعور الروسي بالعزة الوطنية واستطاع الجيش الأحمر في مسيرة عسكرية رائعة صد الهجوم الألماني بل وتعقب القوات الألمانية المنسحبة من موسكو إلى برلين! وانتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 وأحست الدول بحاجتها إلى مؤسسة دولية جديدة تحل محل «عصبة الأمم» والتي ثبت أنها فشلت في الحفاظ على السلام العالمي. وهكذا أنشئت الأممالمتحدة وفق ميثاق حافل بالنصوص القانونية التي تحافظ في المقام الأول على سيادة كل دولة، وتحدد حقوق الدول في حالات السلم وفي حالات الحرب على السواء. وأصبح مجلس الأمن الذي يتشكل من دول دائمة العضوية بالإضافة إلى دول أخرى يتم اختيارها دورياً إشارة بارزة إلى أهمية مبدأ التوازن الدولي في الحفاظ على سيادات الدول. وساعد على استمرار النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية أن القوة العسكرية الفائقة لم تعد تحتكرها دولة واحدة، بل توزعت بين الولاياتالمتحدة الأميركية من جانب والاتحاد السوفياتي من جانب آخر. وساعد على الاستقرار «توازن الرعب النووي» بحكم أن كلاً من الدولتين تمتلك السلاح النووي ما يمنع من أن تغامر أي دولة منهما باستخدامه لأن في ذلك فناءها بحكم أن الطرف الآخر سيستخدم السلاح نفسه. وهكذا كما قرر بودريار (المفكر الفرنسي المشهور وأحد نجوم ما بعد الحداثة) حل الحديث عن احتمالات الحرب محل الحرب الفعلية. وكان هذا مما لا شك فيه لمصلحة الإنسانية. غير أنه مع السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي اختل التوازن وتحول النظام الدولي الثنائي القطبية (الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة الأميركية) إلى نظام أحادي القطبية تهيمن فيه الولاياتالمتحدة بحكم قوتها العسكرية الفائقة على العالم. باختصار تحولت أميركا إلى أمبراطورية عظمى لا تستطيع أي دولة - بحكم الاختلال الجسيم في موازين القوة - أن تردعها. وهكذا صاغت الولاياتالمتحدة في عهد الرئيس السابق جورج بوش وتحت تأثير الفكر السياسي المتطرف لجماعة المحافظين الجدد مذهباً جديداً في الأمن القومي يسمح للولايات المتحدة أن توجه ضربات استباقية لأي دولة إذا أحست أنها يمكن بسياساتها أن تمس الأمن القومي الأميركي. وبذلك نشأ مبدأ شرعية التدخل السياسي حتى ولو بالقوة العسكرية لتغيير النظم التي ترى أميركا أنها منحرفة، أو «مارقة» بحسب التعبير الذائع الآن. في ضوء ذلك غزت الولاياتالمتحدة الأميركية أفغانستان بعد أحداث 9/11 الإرهابية ثم غزت العراق بزعم أنه يمتلك أسلحة دمار شامل. ووسعت الأمبراطورية الأميركية من بعد دوائر تدخلها في الشؤون الداخلية للأمم، خصوصاً في مجال تعقب مخالفات الدول لحقوق الإنسان. ولذلك أصدر الكونغرس الأميركي تشريعاً يبيح لحكومة الولاياتالمتحدة مراقبة كيفية تطبيق الدول لحقوق الإنسان، وتسجيل ذلك في تقرير سنوي تعده وزارة الخارجية الأميركية وترفعه إلى الرئيس الأميركي ليقرر العقوبات المناسبة على الدول التي خرقت حقوق الإنسان، وكأنه الأمبراطور الأعظم الذي يحكم العالم! ومن حقوق الإنسان تم الانتقال إلى مشروع دعم الديموقراطية خصوصاً في البلاد العربية والإسلامية، وهكذا نشأ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يحدد الطرق التي من خلالها ستفرض الولاياتالمتحدة الأميركية الديموقراطية التي تراها فرضاً على الدول! في ضوء العرض السابق نستطيع أن نفسر الخبر العجيب الذي أذاعه موقع «أميركا إن آرابيك» من واشنطن. يقول الخبر كما ورد في صحيفة «المصري اليوم» المصرية بتاريخ 27 تموز (يوليو) 2010 ما يأتي: «أحال مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قرار يطالب بدعم الديموقراطية والحريات في مصر، وإلغاء قانون الطوارئ ورفع أي رقابة للحكومة المصرية عن المساعدات الأجنبية». وقد تقدم بالمشروع كل من السيناتور الديموقراطي راسيل فاينغولد والسيناتور روبرت كيسي والسيناتور الديموقراطي ريتشارد ديرين والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية جون ماكين. وعنوان المشروع المقترح «دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات المدنية في مصر». وقررت مقدمة المشروع الذي حصلت على نصه وكالة «أميركا ان آرابيك» أن سبب وضعه هو «أهمية مصر بالنسبة الى أهداف الأمن القومي الأميركي ولثقلها الثقافي والفكري في المنطقة العربية». ويطالب المشروع الحكومة المصرية بإلغاء حالة الطوارئ المفروضة منذ عام 1981، وتقديم أدلة تضمن نزاهة وشفافية وصدقية انتخابات مجلس الشعب والرئاسة المقبلة وضمان خلوها من أي عمليات تزوير، وتوفير «تمويل مناسب يتيح وجود مشرفين محليين ودوليين على الانتخابات ومنظمات المجتمع المدني لضمان الشفافية» كما طالب مشروع القرار برفع «القيود الاشتراعية على الحريات في الترشح للمجالس النيابية والتشريعية وتأسيس الجمعيات وحرية الآراء» وإنهاء ما سماه «كل عمليات الاعتقال العشوائية والتعذيب وأشكال الإهانة المختلفة». انتهى الخبر العجيب وبدأ التساؤل الضروري: هل تعتقد الولاياتالمتحدة الأميركية باعتبارها الأمبراطورية العظمى التي تحكم العالم أن من حقها الغزو المنظم لسيادة الدول؟ بعبارة أخرى يتحدث مشروع القانون المقترح وكأنه ينظم الأمور ليس في دولة مستقلة لها سيادتها المطلقة هي جمهورية مصر العربية، ولكن في «ولاية» تابعة للولايات المتحدة الأميركية التي يرأسها الرئيس أوباما! يبدو أن مبدأ سيادة الدول قد سقط نهائياً في ظل الهيمنة الأمبراطورية الأميركية! * كاتب مصري