قبل أيام قال رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي لقناة «سي إن إن» إن العراق لم يعد على رأس أولويات واشنطن التي تنظر حالياً في ملفات أخرى، بينها أفغانستان والأزمة المالية العالمية والأوضاع في الأراضي الفلسطينية. وأضاف «أن على أميركا ترتيب أولوياتها بالشكل الصحيح عبر إيلاء المزيد من الاهتمام للعراق بسبب دوره في استقرار المنطقة، من دون إغفال الملف الفلسطيني». وقال علاوي أيضاً إن «الولاياتالمتحدة لا يجوز أن تنظر إلى العراق على أنه بلد أنجزت فيه مهماتها وبات بوسعها تركه من دون مصاعب، باعتبار أن الأوضاع فيه لا تزال صعبة». وكان وزير الخارجية العراقي، هوشيار زيباري، صرّح ل «واشنطن بوست» (15/7/2010) بأن أحد الأسباب الكبيرة التي لم تمكّن العراق من تشكيل حكومة جديدة هو أن إدارة أوباما لم تكن لاعباً كبيراً بما يكفي. وقال: «حتى أكون صادقاً معكم، دورهم لم يكن فاعلاً». هذان القولان يعبران عن شريحة عراقية تتوجس من تبعات الانسحاب الأميركي من العراق، في غياب استقرار يفتح البلد على احتمالات صعبة، تدفع الكثيرين للتساؤل عما إذا كانت الحسابات الأميركية تنظر بجدية إلى مثل تلك الاحتمالات والهواجس، التي دفعت أيضاً دول جوار العراق للدخول بقوة أكثر في الآونة الأخيرة على المسألة العراقية سواء بشقها السياسي أو بشقها المتعلق بالجانب الأمني، حيث تبني السعودية مثلاً سياجاً أمنياً لحماية حدودها مع العراق، كما أعلن رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، أن بلاده تسعى استعداداً للانسحاب الأميركي إلى تشكيل قوة خاصة للمرابطة على الحدود مع العراق لمنع المتمردين الأكراد من التسلل إلى بلاده. ومع أن واشنطن تبدي قلقها وتبرمها من المأزق السياسي في العراق واستعصاء اتفاق الفرقاء السياسيين هناك حتى الآن على تشكيل حكومة عراقية، وعلى رغم ازدياد التفجيرات الأمنية مجدداً في الآونة الأخيرة، فإن الإدارة الأميركية مصرّة على الانسحاب وضمن الموعد المحدد. والمقاربة الأميركية للانسحاب من العراق تقوم على حيثيات وركائز عدة منها: أولاً، أن واشنطن ترى أن قوات الأمن العراقية تنمو عدداً وقدرة، وقد قامتْ وحدها في الأشهر الأخيرة بتنفيذ مهمات أمنية واسعة ونجحت فيها. من هنا يأتي خفض عديد القوات الأميركية في العراق مع بداية أيلول (سبتمبر) المقبل إلى 50 ألف جندي، منسجماً مع فكرة التوجه نحو تركيز أقل على المهمات القتالية لمصلحة التركيز الأكبر على محاولة بناء المؤسسات الأمنية والسياسية والاقتصادية العراقية. وقد دعا الجنرال ريموند أوديرنو، قائد القوات الأميركية في العراق، إلى إقامة مكتب للتعاون العسكري ضمن السفارة الأميركية في بغداد لمواصلة العلاقة بين البلدين بعد 31 كانون الأول (ديسمبر) 2011، معبّراً عن شكوكه في أن تطلب الحكومة العراقية بعد ذلك التاريخ وجود قوات برية أميركية، مع أنّ الاتفاقية الأمنية بين البلدين تترك ذلك الاحتمال مفتوحاً. ثانياً، أكدت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، في تقديرها للانسحاب من العراق بقولها: «قواتنا ستنسحب، إنما مصالحنا ستبقى، ونحن ملتزمون بالعلاقة الاستراتيجية بين واشنطن وبغداد». والتأكيد بأن العلاقة المستقبلية بين البلدين هي ذات طابع استراتيجي وبعيد المدى يكاد يكون لازمةً في تصريحات جميع المسؤولين الأميركيين عند حديثهم عن الملف العراقي. وبموجب قرار رئاسي صادق الرئيس الأميركي قبل أسابيع على قرار بإنشاء منظمة تعرف ب «دائرة العلاقة الاستراتيجية مع العراق»، تابعة لوزارة الخارجية الأميركية، لتسهيل الشراكة الاستراتيجية بين البلدين بدلاً من علاقة اعتماد عراقي على الولاياتالمتحدة. ثالثاً، إن الإصرار الأميركي على الانسحاب من العراق إنما يرتكز على أن الولاياتالمتحدة بأمسّ الحاجة اليوم إلى تخفيف العبء الواقع على جيوشها الممتدة حول العالم. وبعد مرور سبع سنوات، ترى واشنطن أن الوقت مناسب للعراقيين ليتولوا أمر أمنهم بأنفسهم. ووجود القوات الأميركية بعددها الكبير كان متزامناً مع حضور ديبلوماسي كبير، ومع الانسحاب سيتقلص هذا الحضور في السنوات المقبلة على ما يبدو، كما كشف أخيراً جيمس جيفري المرشح ليكون السفير المقبل في بغداد خلفاً لكريستوفر هيل. وقد أكد جيفري أن بلاده تعتزم تقليص وجودها الديبلوماسي في العراق بحلول عام 2014، وإنهاء برنامج لتدريب الشرطة العراقية (ستديره الخارجية الأميركية مطلع العام المقبل) تدريجياً في فترة تتراوح بين 3 و5 سنوات. وأوضح جيفري أن ذلك يعني أن الحضور الديبلوماسي الأميركي سينخفض إلى صورة سفارة في بغداد تضم مكتباً للإشراف على المبيعات العسكرية إلى العراق، إضافة إلى قنصلية في الجنوب وأخرى في الشمال، وستنضم إلى السفارة والقنصليتين «فرق إعادة الإعمار». معنى هذا أن واشنطن ستبقى ملتزمة التعاون مع العراق كشريك في تعزيز الاستقرار في المنطقة، وهذا الالتزام برأي جيفري «يضمنه في المقام الأول الدم والمال العراقي والأميركي على حد سواء». وقد بيّن مساعد وزيرة الخارجية جيفري فيلتمان، بأن السفارة الأميركية ترعى حالياً جهود انتقال العلاقة بين البلدين من علاقة مبنية على الوجود العسكري إلى علاقة مبنية على الشراكة المدنية. رابعاً، إن الانسحاب الأميركي من العراق في الموعد المحدد ينسجم مع الاستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي التي كُشف عنها في أيار (مايو) الماضي. وقد أكدت الوزيرة كلينتون وقت الإعلان عنها أن «الجيش الأميركي أصبح يدرك محدودية استخدام القوة». ورأت أنّ «أحد الأخطاء التي ارتكبتْ خلال عهد الحكومة السابقة هو أننا عَسْكرنا الوجود الأميركي في مناطق الصراع». وأكدتْ أن «الولاياتالمتحدة لا تستطيع الاستمرار في عجزها المالي وديونها الحالية من دون فقدان النفوذ وخيارات صنع القرار». هذا يعني أن واشنطن ترى أن عدم انسحابها من العراق عائق كبير أمام مصالحها مع هذا البلد، وتطوير العلاقة المستقبلية معه. وغالبية العراقيين لا يزالون غير متقبلين لتطوير هذه العلاقة في ظل الاحتلال. المصلحة الأميركية، بحسب العرض السابق لا تُختزل في التأثير الأميركي المباشر في العملية السياسية، بل في ممارسة دور الحليف والمستشار. والحليف لا يُسقط من يتحالف معه من أولويته السياسية، بخلاف ما يذهب إليه إياد علاوي. * كاتب أردني