قرأت في الصحافة ما نشر عن الندوة التي عقدت أخيراً في إطار «موسم أصيلة الثقافي الدولي» حول الديبلوماسية الثقافية. واستوقفني ما قاله السيد دومينيك دوفيلبان، رئيس الحكومة الفرنسية السابق والمثقف الشاعر، من أن «الثقافة لا يمكن أن تتطور باستقلال عن سياسة تنهجها الدولة في مجال الثقافة، ومن ثم فإن المنتسبين إلى عالم الثقافة والفكر والآداب والفنون، لا يمكنهم مدّ الجسور وحدهم مع الشعوب والثقافات الأخرى». وقدرت للسيد دوفيلبان قوله بالخصوص في تلك الندوة: «إن ما لم تدركه الولاياتالمتحدة الأميركية هو ضرورة الاطلاع على ثقافة العالم العربي، وبالتالي كان بإمكانها تفادي وقوع أحداث كثيرة والانزلاق إلى مهاوي العنف» واستثارة العنف المضاد أيضاً. وليست الولاياتالمتحدة الأميركية وحدها التي لم تدرك ضرورة الاطلاع على ثقافة العالم العربي، بل حتى فرنسا وإنكلترا، وغيرهما من الدول الأوروبية، لم تدرك أهمية التعرف على الثقافة العربية وعلى القيم والخصوصيات الثقافية الحضارية للعالم العربي الإسلامي، حتى يكون للقرارات التي تتخذها وللمواقف التي تتبناها بخصوص العرب والمسلمين، سندٌ معرفيٌّ وقاعدة ثقافية. فقد كانت هناك حجبٌ من الجهل وسوء الفهم تحول دون ذلك. وقرأت أيضاً، بعضاً مما نشر هنا وهناك، عن التحضيرات الجارية لعقد القمة العربية الثقافية، ومنها التحضيرات التي تقوم بها مؤسسة الفكر العربي، بالتنسيق مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، وإن كنت لم أتقبل بارتياح ما ذهب إليه بعضُ المثقفين الذين كتبوا في الموضوع، من الدعوة إلى إبعاد الأجهزة الثقافية الرسمية في الدول العربية، عن رسم جدول أعمال هذه القمة والتحضير لها. لأن من يقول بذلك يغيب عنه أن القمة تمثل الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية على أعلى مستوى، وبالتالي فإن الجهات الحكومية المسؤولة عن قطاع الثقافة، لابد لها من أن تكون مهتمة أساساً ومعنية بالدرجة الأولى، بالإعداد والتحضير للقمة. ولاحظت أن غالبية من كتب عن هذه القضية، وفيهم قيادات ثقافية لها مكانتها، غفلوا عن الإشارة إلى أنه ضمن منظومة العمل العربي المشترك، يوجد جهاز حكومي مسؤول عن الشؤون الثقافية، هو «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – ألكسو» كما يوجد ضمن منظومة العمل الإسلامي المشترك، جهاز حكومي مسؤول عن الشؤون الثقافية، هو «المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو»، وهما جهازان يكمل بعضهما بعضاً، ويرتبطان باتفاقية للتعاون، ، ولهما استراتيجيتان للثقافة، الأولى هي «الخطة الشاملة للثقافة العربية»، والثانية هي «الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي». وهما استراتيجيتان معتمدتان من القمة العربية ومن القمة الإسلامية. ولم اقرأ حتى الآن أو أسمع، من دعا إلى تفعيل هاتين الاستراتيجيتين المهمتين، ولا من طالب بتنفيذ العشرات من القرارات والتوصيات التي صدرت عن مؤتمرات وزراء الثقافة العرب والمؤتمرات الإسلامية لوزراء الثقافة. وهي حصيلة من القرارات مهمة للغاية، غالبيتها لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ. إن الديبلوماسية الثقافية قوة دفع للديبلوماسية التقليدية، وهي بذلك تعد ديبلوماسية موازية ً ومكملة ومساندة وداعمة، لها دورُها الفاعل والمؤثر في التقارب بين الثقافات، وفي تعزيز التواصل الحضاري، وفي نشر ثقافة التعايش والحوار والتفاهم بين شعوب العالم، وفي التخفيف من حدة الصراعات ومن ضراوة النزاعات والأزمات التي تنشب بين الحين والآخر في هذه المنطقة أو تلك. بل يمكن للديبلوماسية الثقافية أن تنزع فتيل الحروب التي قد تندلع هنا أو هناك، من حيث لا تستطيع الديبلوماسية التقليدية فعله. ولا يمكن أن يستغنى في ممارسة الديبلوماسية الثقافية، عن جهود الحكومات المساندة لها والداعمة لفعاليتها. فهذا الفرع من الديبلوماسية الموازية، كما هي الفروع الأخرى، لا يقوم إلا على أساس الديبلوماسية التقليدية من جهة، ويستند ابتداءً إلى قاعدة العمل الثقافي المشترك في قنواته الحكومية. وهذا لا يعني أن تكون الديبلوماسية الثقافية مرتبطة عضوياً بالأجهزة الحكومية. وقرأت أيضاً ما قاله الصديق الأستاذ محمد بن عيسى، الأمين العام لمنتدى أصيلة الثقافي ووزير الخارجية المغربي السابق، من أن «المنحى العام الذي بات مؤثراً في العالم، يتجه نحو التقليص من دور الديبلوماسية التقليدية، دون الاستغناء عنها كلية، ولذلك فإن ضخها بجرعاتٍ قوية من الثقافة، هو اختيارٌ لا محيد عنه)، وقوله (إن الفاعلين الجدد المتمثلين في قوى المجتمع المدني، التي أصبحت تمارس تأثيراً على صانعي القرار الديبلوماسي وراسمي السياسة الخارجية، أدركوا المفعول القوي للثقافة بمختلف تعبيراتها وقدرتها على اقتحام جدران اللاتفاهم». وهذا رأيٌ سديدٌ، يعبر صاحبه عن الفهم المستوعب لمضامين الديبلوماسية الثقافية خير تعبير. لقد ظهرت الديبلوماسية الثقافية باعتبارها عنصراً فاعلاً ومؤثراً في العلاقات الدولية، منذ انطلاق حركة الحوار بين الثقافات في المرحلة الأولى، ثم حركة التحالف بين الحضارات في المرحلة الحالية، تحت مظلة الأممالمتحدة. وتعززت الديبلوماسية الثقافية بالقرارات التي اتخذها المؤتمر العام لليونسكو في شأن الحوار بين الثقافات واحترام التنوع الثقافي، وبتأسيس المنتدى العالمي لتحالف الحضارات الذي يجسد - أو بعبارة أدق ينبغي أن يجسد - فكرة التعارف الثقافي والتواصل الحضاري والتعايش السلمي بين الشعوب، في إطار الاحترام المتبادل، من أجل ازدهار هذا العالم واستتباب الأمن والسلم في ربوعه. أرى أن حاجة العالم إلى تفعيل الديبلوماسية الثقافية تتزايد باطراد، خصوصاً في هذه المرحلة التي تكاد تفشل فيها جهود الديبلوماسية التقليدية في الساحة الدولية التي ترسم القوى العظمى خطوطها الرئيسّة، في تبديد السحب التي تحجب الرؤية الصحيحة إلى الأمور التي تجرى في هذا العالم. فهل تكون الديبلوماسية الثقافية منقذاً للديبلوماسية التقليدية؟. الجواب عن هذا السؤال عند الراسخين في العلم. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو.