مكسيم لو فوريستييه يؤدي أغاني جورج براسنز في مهرجانات جبيل؟ الواقع أن لو فوريستييه يحمل أعمال صديقه الراحل كأنها له، ينشد قديمها المعروف، والكثير مما وضعه براسنز ولم يتسنَّ له إنشاده. لكن لو فوريستييه في الأصل منشد ومؤلف وملحن، ولديه باع طويلة في مسيرة الأغنية الفرنسية المخضرمة على ضفتي المحيط. فحتى الذين يعرفون القليل عنه يذكرون أغنيته الشهيرة «سان فرانسيسكو» التي تعود إلى مطلع سبعينات القرن المنصرم عندما أقام في شارع كاسترو معقل بوهيميي تلك المرحلة، وتعرّف إلى ألان غينسبيرغ وشلة البيتنيك، قبيل انفراطهم من «فريسكو» إلى لوس أنجليس ونيويورك. عام 1965 شكل فوريستييه ثنائياً غنائياً مع شقيقته كاترين على الضفة اليسرى لنهر السين حيث التقيا جورج موستاكي وتعاونا معه في التأليف والتلحين. لاحقاً انضمت كاترين إلى فرقة الهيبي اليوناني، وسافر مكسيم إلى أميركا. في تلك المرحلة كان الشقيقان أول من أنشد أغاني موستاكي خصوصاً «حريتي» و «وحدتي». بعد وفاة جورج براسنز عام 1981، وضع لو فوريستييه نصب عينيه إحياء ذكرى الرفيق الذي واكب انطلاقته وشاركه الحلو والمرّ طوال سنوات. فكان أول ما فعله أن اختار من تركة براسنز الأغاني التي أحبها الناس في كل مكان وأعاد توليفها بما لا يطمس أصولها ولا يخالف التطور المستجد في تقنيات التوزيع والتسجيل، لعله يكفل استمرار حضور براسنز في ذاكرة الجيل الصاعد. كما بدأ يغني الأغاني التي تركها برسنز على الرف. وليس وجوده ليلة أول من أمس في جبيل سوى دليل قاطع على نجاح مهمته. كتب جورج براسنز ولحّن أكثر من مئتي أغنية بقي منها نحو النصف من دون تسجيل نهائي. كما وضع الموسيقى وأنشد من شعر فيكتور هوغو وبول فيرلين ولوي آراغون. وكان مؤثراً للغاية سماع «ما من حب سعيد» لأراغون تلك الليلة. عام 1976 حاز براسنز الجائزة الكبرى للشعر في فرنسا ودخل اسمه نادي المكرسين في الأكاديمية الفرنسية. بين 1952 و 1976 سجل 14 أسطوانة تميز معظم أغانيها بالفكاهة القارسة والروح الفوضوية التي رافقت نشأته وصبغت كلماته وسيرة حياته. «أنا فوضوي إلى حدّ أنني دائماً أجتاز الشارع في المكان المطلوب كي أتفادى التعامل مع الشرطة. لأنني لست معجباً بالقوانين، في الواقع أستطيع العيش من دونها، بخلاف معظم الناس»، قال براسنز ذات يوم. من شعره المنشور في ديوانه الأول «طعنات سيف في الماء»: «العصر الذي نعيشه مهترئ فالجبن والانحطاط في كل مكان يؤم القداديس أكبر الجزارين وكبار الأباطرة المقدّمين مرحى للذين فهموا واللعنة على الباقين» دائم الهزء من المكونات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للمجتمع البورجوازي، ورث جورج براسنز عن والده العداء للسلطة والإكليروس، فكان متهوراً في صباه: «كنا رعاعاً في الرابعة عشرة والخامسة عشرة، وبدأنا نحب الشعراء». ولولا ضمانة والده لدخل السجن مع رفاق له شكلوا عصابة لسرقة مجوهرات أمهاتهم. ثم هرب من الخدمة الإجبارية تحت الحكم النازي وبقي مختبئاً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وتحرير باريس. أما لو فوريستييه الذي دخل المسرح في لباس أبيض وفتح ذراعيه للجمهور سعيداً بالمجيء إلى لبنان للمرة الثالثة، فبدأ أمسيته بإحدى الأغاني «الرذيلة» لبراسنز، وهي الأكثر رواجاً وفكاهة. ولم يذهب خياره سدى إذ «هيّص» الجمهور وصفق بحرارة. لكن تلك الحماسة بدأت تفتر مع توالي الأغاني ذات المرجعية الضئيلة في الذاكرة المحلية، علماً أننا فوجئنا بأعداد ملحوظة من شبان وشابات الجيل الجديد يتماشون بارتياح ومتعة مع أغاني مطرب «عتيق». كان لو فوريستييه أقرب إلى «مغوار» يقوم بمهمة صعبة لكن بفرح كبير، وعلى رغم الهبوط الحماسي تجاه الأغاني التي يكثر فيها الوصف وتقل الفكاهة، لا بد من تسجيل شجاعة مهرجانات جبيل في دفع المضمون الثقافي إلى الواجهة عبر تكريم أحد أبرز وجوه الأغنية والشعر في القرن العشرين، خصوصاً أن براسنز ترك أصداء واضحة على نتاج شعراء وموسيقيين في عالمنا العربي.