قدمت الصحافية نسرين النمر خدمة كبيرة لبرامج فضائية «النيل الازرق» بمحاورتها اخيراً، الشاعر والكاتب الدرامي هاشم صديق الذي خرج ذات يوم، قبل 17 عاماً من التلفزيون، ولم يرجع إليه مطلقاً! حصل ذلك، كما يمكن الجميع ان يتوقع لأسباب سياسية. خلال البرنامج الذي مُنح اسماً شاعرياً: «العودة إلى النهر» لم يشأ صديق ان يفصّل في هذا الجانب، على رغم إلحاح المذيعة... وارتأى ان يجعل اطلالته الأولى، بعد الغياب الجبري الطويل، لتحية جمهوره عبر الشاشة، خصوصاً اولئك الذين تعرفوا إليه عبر برنامجه «دراما 90» الذي كان يقدمه عبر الفضائية السودانية مطلع التسعينات. لكنه لم يكف عن الاشارة إلى شعوره بالأسى كونه حُرم من جمهوره لسنوات «تساوي عمراً بأسره»، قلّصت الكثير من فعاليته كمبدع ومثقف... وعلى مدار ساعتي البرنامج بدا صديق متأثراً جداً وغير قادر على مغالبة دموعه! هاشم صديق، وإن لم يكن معروفاً عربياً، إلا انه من الاسماء الابداعية الراسخة في المشهد الفني السوداني. ولعله اشتهر، في البدايات، بكتابته ل «الملحمة - قصة ثورة» وهي اغنية ثورية، قُدمت، بمشاركة مجموعة من المطربين، تمجيداً لذكرى الثورة الشعبية التي اطاحت نظام الجنرال عبود في تشرين الأول (أكتوبر) 1964. قبل «الملحمة» وبعدها حفل مشوار صديق الابداعي بعدد من المحطات الملحمية، خصوصاً في الاذاعة، اذ قدم لمكتبتها الدرامية اعمالاً رصينة ما زال صدى بعضها يتردد مثل «قطار الهم» و «احلام الزمان» وسواهما. كما قدم نصوصاً مسرحية مؤثرة مثل «نبتة حبيبتي» التي اخرجها مكي سنادة وشهدت ايام عروضها، في السبعينات، تزاحماً من الجمهور على شباك التذاكر، بل وتظاهرة سياسية، كما يقول بعض المصادر، على شارع النيل، مأخوذة بأجواء المسرحية التي تقارب العلاقة المعقدة بين «السياسي والديني والفني»! لا يملك صديق في ذاكرة الدراما التلفزيونية سوى مسلسل «طائر الشفق الغريب» وهو من تأليفه وإخراجه، إلا انه احدث جديداً وكسب موقعاً منظوراً عندما أخذ يناقش، بخبرته النقدية الاكاديمية، المسلسلات والافلام العربية ويعرّف المشاهد السوداني الى جمالياتها ودلالاتها عبر برنامجه «دراما 90»، وهو آخر ما قدمه للمشاهدين قبل ان يُحاصر بالدسائس والمكائد السياسية التي انتشرت في التلفزيون وقتها، من ثم ينقطع في عزلته الطويلة. القاسم المشترك بين سائر احوال هاشم صديق الابداعية هو نزوعه النقدي الجريء واللاذع. وكلفه ذلك الكثير بالطبع، أو كما قال: الكثير... مما لا يمكن تعويضه! «انا الآن افرغ غبني وغضبي في دموعي»... هكذا كان رد الشاعر على المذيعة عندما سألته في ما لو كان تجاوز كل ما مضى وتهيأ لعودة جديدة إلى نهر الحياة! واستطرد هنا، مشيراً إلى انه، ومع غبنه الشديد وضيقه مما تعرض له على عهد نظام الانقاذ، ضبط نفسه كثيراً عندما حاورته، منذ فترة، قناة «الجزيرة»، وقال: «لقد قلت كلاماً موضوعياً يومها حتى تفاجأ البعض»! وهو يعني انه لم يتخذ لقاء القناة القطرية مناسبة لإخراج «الهواء الساخن» من صدره. ولعل صاحب النص المسرحي الذائع «وجه الضحك المحظور» فعل الشيء ذاته في غالبية لحظات ظهوره على قناة «النيل الازرق»، اذ ترك دموعه تتكلم أكثر من أشعاره، أكثر من أي شيء آخر!