قد يكون شهر العسل الذي مرّ بين الحكومة السورية والإسلاميين في سورية والمنطقة على وشك الانتهاء. فقبل أيام أصدر وزير التعليم العالي في سورية قراراً يمنع بموجبه المنقبات من دخول الجامعات السورية العامة والخاصة. ينطبق هذا القرار على المدرّسات والطالبات على حد سواء، ويمتد ليشمل الزائرات أيضاً من أمهات وغيرهن. ويبدو أن هذا القرار جاء بعد مطالبة أهالي طالبات يدرسن في الجامعات الخاصة إدارات هذه الجامعات بوضع حد لظاهرة الفتيات المنقبات اللواتي يرتدْن الجامعات ويحاولن التأثير في الطالبات الأخريات. ويأتي هذا القرار حلقةً جديدة في سلسلة من الإجراءات التي بدأت الحكومة السورية باتخاذها للحد من تأثير الإسلاميين السوريين الذي بدأ يتنامى في شكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. قبل قرار وزير التعليم العالي بأسابيع، أصدر وزير التربية قراراً بنقل أكثر من ألف معلمة منقبة من التعليم في الصفوف إلى وظائف إدارية في وزارات أخرى. القرار أثار دهشة الجميع، إذ إنه جاء من دون تمهيد، وفي وقت كان معظم الناس يعتقدون أن الحكومة تمرّ مع الإسلاميين السوريين بمرحلة تفاهم تام. لقد مرّ حين من الدهر كانت السلطة السورية بالفعل في حالة تناغم مع الشارع الإسلامي السوري وقادته الإسلاميين. وينبغي هنا التمييز بين قادة الشارع الإسلامي وبين الإسلام السياسي، على رغم أن الحدود ليست واضحة على طول الخط. الأول تعبر عنه مجموعة من رجال الدين تتراوح بين الصوفية والسلفية المعتدلة. الثاني هو الإسلام الذي يعبر عنه الإخوان المسلمون من جانب والجهاديون الذين يستلهمون فكر القاعدة من جانب آخر، وكلاهما لا يتمتع في سورية بدعم أو تعاطف شعبي، ولا بتسامح أو تهاون من طرف الحكومة. التهاون يأتي مع التيار الأول الذي يبدو أنه عقد مع الحكومة اتفاقاً على أن يتقاسما الحالة السورية، فيترك رجال الدين السياسة والاقتصاد للحكومة ورجال الأعمال، بينما تطلق الحكومة يد الإسلاميين في الساحتين الاجتماعية والثقافية. وكان من أسباب التساهل الذي أبدته الحكومة تجاه الإسلاميين الفترة العصيبة التي مرت بها أثناء الحصار الذي امتد بين 2003 و2007. وقد قررت الحكومة أن تلعب لعبة تجيير الحضور الإسلامي بدعاته وواعظيه وخطبائه من أجل حشد الشارع الإسلامي لدعم الحكومة في صراعها مع الغرب. وفي هذا السياق خصصت خطب الجمعة لحشد مشاعر المؤمنين الدينية، وسمح لتيار نسوي إسلامي، كان يعمل سراً على مدى عقود، بالعمل العلني في بعض جوامع العاصمة دمشق، وبدأ ظهور عدد من الدعاة الشعبيين الذين بدأوا يهيمنون على الشارع الإسلامي، من خلال الدروس والخطب والظهور في إحدى الإذاعات المسموعة في سورية، كما ازداد تأثير الفقهاء المؤثرين تاريخياً، وتألق دعاة وفقهاء مجددون وصل بعضهم إلى الندوة النيابية، ممثلين عن الاتجاهات الإسلامية. ومنعت وزارة الثقافة مؤتمراً عن العلمانية مطلع هذا العام، بينما عوقبت قبل ذلك دارا نشر علمانيتان لتوزيعهما كتاباً صغيراً عن الحجاب. وألغيت تراخيص أماكن عدة لبيع وتقديم الخمور، وانتشر لبس الحجاب والنقاب الغريبين عن تاريخ المرأة السورية (وهو غير الحجاب الشعبي السوري الذي لا يمثل تشدداً دينياً بقدر ما يمثل عرفاً) انتشاراً كبيراً في المدن أولاً، ثم انتقل إلى الريف في محاولة لتقليد سيدات المدن. لذلك جاءت القرارات الأخيرة مفاجئة إلى حد بعيد ومتناقضة مع مجريات سير الأمور. وجاء تفسير وزير التربية لقرار النقل مفاجئاً أيضاً. وهو قال إن الإجراء كان «أمراً لا بد منه لأن العملية التعليمية تسير نحو العمل العلماني الممنهج والموضوعي وهذا الأمر لا يتوافق مع متطلبات الواقع التربوي». ولفت وزير التعليم العالي، بحسب موقع الكتروني سوري، إلى أنه لن يترك «طلابنا... عرضة لأفكار والعادات المتطرفة»، مشيداً ب «أخلاق المجتمع السوري الذي أثبت على مر العصور الوعي والقدرة على التصدي للكثير من العادات السيئة وشارك بفاعلية وجدية ضد حملات الغزو المنظمة»، داعياً في الوقت نفسه إلى «التعاون مع مختلف شرائح المجتمع لنشر الوعي بين أبنائه». لقد بدأ مصطلح العلمانية يعود إلى الاستخدام، وبدأ كبار المسؤولين يستخدمونه، أكثر فأكثر. ويبدو أن ذلك يعود إلى أن الحكومة السورية أخذت منذ عامين تستشعر راحة كانت افتقدتها على مدى سنوات. فلقد انتهت سياسة العزلة والحصار، وبدأت المياه تعود إلى مجاريها مع معظم دول العالم. ومن ناحية أخرى، فقد جاءت بدعة الأعمال الإرهابية التي قامت بها مجموعات أصولية متطرفة بين 2006 و2008، وكان آخرها تفجير قرب أحد المراكز الحكومية الأساسية في العاصمة، في خريف 2008، لتضع الحكومة أمام سؤال عما إذا كان تساهلها مع الإسلاميين صحيحاً. وبدأت الحكومة بهدوء سلسلة من الإجراءات التي استهدفت هيمنة الإسلاميين المتزايدة في الشارع السوري وبعض مفاصل الحكومة ذاتها. ففي عام 2008، بدأ التضييق على المعاهد الإسلامية التي نمت في شكل كبير من حيث عدد الطلاب ومن حيث الشهادات العالية التي تقدمها في علوم الدين للطلاب بما في ذلك شهادة الدكتوراه. وقد حدث ذلك بعد أن تبين أن أحد منفذي العملية الإرهابية كان طالباً في أحد هذه المعاهد. وفي حزيران (يونيو) أقيل خمسة من أعضاء مجلس محافظة دمشق، ثلاثة منهم أعضاء في المكتب التنفيذي للمحافظة، وذلك بموجب مرسوم رئاسي، وأوضحت مصادر إعلامية بعثية أن سببها خلفية هؤلاء الأعضاء الدينية، وفقاً لتقارير صحافية. واختفى منذ فترة نجم النائب محمد الحبش الذي كان يوصف ب «النائب الإسلامي»، ولم يعد له ظهور إعلامي على المحطات الفضائية لمناقشة موضوعات سياسية. ونجحت جماعات وأفراد من المجتمع المدني السوري في إيقاف مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية كان من شأنه أن يكرس أكثر الأحكام تحيزاً ضد المرأة كمواد قانونية. وعُقِد أواخر عام 2008 مؤتمر كبير لمناقشة قضية ما يسمى بجريمة الشرف، تلاه في صيف 2009 مرسوم رئاسي يلغي المادة التي كانت تعطي «عذراً» لمرتكبي «جريمة الشرف»، مستبدلاً إياها بعقوبة لا تقل عن سنتين. وعلى رغم أن هذا المرسوم لم يلبِّ طموحات مناصري قضايا المرأة، فقد كان خطوة ملحوظة في اتجاه مواجهة هيمنة الإسلاميين. وتم تعيين عدد من المفتين المعتدلين في المدن الرئيسة في سورية، ومن بينها مدينة حلب، كما تم تعيين إمام وطبيب وشاعر معتدل على رأس مديرية الأوقاف في مدينة حلب. ومنذ تسلمه منصبه أوقف عدداً كبيراً من خطباء المدينة المتشددين عن الخطبة والتدريس. وتراجع حزب البعث عن مذكرة داخلية كان وزعها العام الفائت وأعلن فيها تسامحه مع جماعة دينية بعينها تهدف إلى إعادة الخلافة الإسلامية وتعادي تحرر المرأة، وهو ما كان أثار حفيظة أعداد كبيرة من العلمانيين ومناصري قضايا المرأة في البلاد. ثمة مشكلتان الآن: الأولى هي إلى أي حد يمكن أن تذهب الحكومة في مواجهتها التأثير المتنامي للمتشددين الإسلاميين. وإذا كان من السهل تمييز المنقبات من لباسهن، فكيف يمكن تمييز المنقبين الذين لا يعتمرون نقاباً فوق رؤوسهم، ولكنهم يلبسونه حول عقولهم، فيرفضون كل شكل من أشكال التحرر والحداثة والمساواة، ويمجدون القتل. وهؤلاء صاروا موجودين في كل مكان في الشارع والجامع والمؤسسات الحكومية. والثانية هي كيف يمكن أن تأخذ هذه المواجهة شكلاً قانونياً، بدل أن تأخذ شكل قرارات فوقية وتوجيهات وأوامر. النقاب ليس حرية فردية. إنه شكل من أشكال الاستعباد. وعندما يتم قانون إلغاء العبودية لا يعتدُّ برغبة بعض العبيد في أن يبقوا أرقاء عند أسيادهم. ولكن مواجهته ينبغي أن تتم بطريقة دستورية وقانونية، وبمشاركة من أوسع قطاعات السوريين الذين يهمهم هذا الأمر، من أي زاوية نظروا إليه. ولنأخذ المثال الفرنسي، فمهما اعترض معترضون على قرار البرلمان، فإن أحداً لا يمكن أن يعارضه، لأنه جاء من قبل ممثلي الشعب الفرنسي، وعلى شكل قانون. * كاتب سوري.