في أحد أيام عام 1965 كان هناك شاب قارب الثلاثين من العمر مولع بالثقافة السينمائية على رغم دراسته الفلسفة بكلية الأداب. كان يملأه الحماس لأن يُصبح مخرجاً سينمائياً. فقرر أن يعمل مساعد مخرج مع أستاذه صلاح أبو سيف الذي كان يتوقع موافقته باعتباره أحد تلاميذه المقربين منه في معهد السيناريو. عرض عليه الفكرة فنصحه الأخير ألَّا يفعل لأن عمل مساعد المخرج سوف يشغله عن تعلم الإخراج، ثم منحه مجموعة استمارات ليقوم بملئها بالمعلومات المتعلقة بكل لقطة أثناء التصوير مثل حجم العدسة، حركة الكاميرا، الممثلين وحركتهم. في ذلك الوقت كان صلاح أبو سيف يستعد لإخراج فيلمه «القاهرة 30» المأخوذ عن قصة نجيب محفوظ التي نُشرت باسم «القاهرةالجديدة» ثم أُعيد طبعها تحت عنوان «فضيحة في القاهرة» تفادياً للرقابة. لم ينتظر الشاب بداية التصوير بل أخذ يتردد يومياً على مكتب صلاح أبو سيف ويُصاحبه في جميع تنقلاته المتعلقة بالإعداد للفيلم بدءاً من كتابة السيناريو ومناقشته، وبناء الديكور ووضع الموسيقى وتصميم الرقصات واختيار الممثلين والكومبارس. بدأ الشاب يكتب ملاحظات لنفسه عن كل شيء يجده جديراً بالملاحظة، ثم واصل الكتابة في المراحل التالية لإنتاج الفيلم حتى لا تضيع منه الدروس المستفادة. ولكن سرعان ما تطورت الفكرة لديه إذ خطر له أن يصنع منها كتاباً يفيد به الآخرين ما أشعل حماسته لمزيد من المتابعة والتدقيق والملاحظة والتسجيل والسؤال عن كل ما فاته أو انغلق عليه فهمه. بعد عام ونصف العام خرج الكتاب إلى النور ليحمل عنوان «يوميات فيلم القاهرة 30» بتوقيع هاشم النحاس. هذا الكتاب الذي صدر أواخر الستينات من القرن الماضي تحمس له من جديد الروائي «يوسف القعيد» فأصدر منه طبعة جديدة حديثاً ضمن سلسلة «نجيب محفوظ» التي يرأس تحريرها وتُصدرها الهيئة العامة للكتاب. يتابع الكتاب عملية تحقيق «فيلم القاهرة 30» بكل مشاكله الفنية والإنتاجية. يُجسد بحيوية نابضة على صفحاته ذلك العالم السينمائي المليء بالعقبات والمفاجآت والعراقيل داخل وخارج البلاتوه. يكشف عن العلاقة المتشابكة بين العاملين والفنانين والفنيين في الفيلم، ودور كل منهم، وجوهر المهمة الإبداعية للمخرج، سواء قبل التصوير وأثناءه وبعده. يكشف كواليس الفيلم وما بها من اعتذارات النجوم مثل أمين الهنيدي وفاطمة رشدي لأن أدوارهم كانت ثانوية. هو كتاب مليء بالدروس العملية لمديري الإنتاج وكتّاب السيناريو ودارسي الإخراج. فيه فصل كامل لوصف حركة الكاميرا مع حركة الممثلين. في حين يُخصص فصل آخر للمقارنة بين ما كُتب في السيناريو وما ظهر على الشاشة. يتضمن أيضاً في جزئه الأخير ما نُشر عن الفيلم في الصحف على مدار ثلاثة أشهر حيث بلغ عدد مرات الكتابة عن الفيلم حوالى خمسين مرة، فاهتدى هاشم النحاس إلى فكرة حصر كل ما نُشر عنه وتصنيفه وعرض أهم الأفكار مع التركيز على ثلاثة منها على رغم اختلاف وجهات النظر فيها. السيناريو واللقاءات الشخصية يعتمد الكتاب على الملاحظة، وما تقتضيه من متابعة للتفاصيل، إلى جانب المقابلة الشخصية للسؤال عن بعض المعلومات غير الواضحة. كذلك التعليق عليها بأسلوب فني واضح وبسيط. يسرد الكتاب بدقة حكاية فيلم «القاهرة 30» منذ وقوع «صلاح أبو سيف» في غرام رواية «القاهرةالجديدة» عندما قرأها عام 1945 لكن الرقابة رفضتها فقد وصفها أحد رجال العهد البائد بأنها «صرخة طائر تُنذر بالخطر» على حد وصف نجيب محفوظ. وتكرر هذا الرفض أربع مرات، بسبب بشاعة تصرف الشخصيات ولأن الرواية تتحدث عن عفونة الوضع الاجتماعي وتُنذر بانهياره. في المرة الخامسة عام 1964 وافقعت عليها الرقابة، أي بعد عشرين سنةً من صدور الرواية. بعدها بدأ صلاح أبو سيف مع وفية خيري في كتابة السيناريو، وأوكل إلى لطفي الخولي كتابة الحوار، ثم قُدم السيناريو إلى علي الزرقاني لمراجعته، فاختصر هذا كثيراً من الحوار وأعاد كتابته، وغيّر في بعض الشخصيات والأحداث. أجرى النحاس حواراً مع علي الزرقاني لمعرفة ملاحظاته على السيناريو فتحدث عن إشكاليات القصة الأساسية وأن شخصياتها لا تلتحم التحاماً درامياً، ولا يُؤثر أحدها في الآخر، ومن ثم ففي الفيلم لا بد من تقابل الشخصيات وتبادل التأثير والتأثر بينها، كما أن القصة تفتقر إلى شخصية محبوبة يشاركها الجمهور أفكارها ويتمثل قضيتها، والإشكالية الثالثة سلبية (علي طه). كانت حلول الزرقاني أن يعثر على مواقف درامية يوُجِد بها هذا التأثير والتأثر، كما أصر على حذف شخصية مأمون طالما أنه لا ضرورة درامية لها في حين كان أبو سيف يرى العكس وفي النهاية انتصر الزرقاني بموافقة نجيب محفوظ. أثناء ذلك قدمت نسخ أخرى لأعضاء قسم السيناريو بالمؤسسة المصرية العامة للسينما المنتجة للفيلم لدراسة السيناريو والحوار ومناقشته مع المخرج. المفاجأة أن الجلسة انتهت إلى التأكيد على عدم الرضا عن السيناريو، فالحوار طويل يحتاج الاختصار إلى النصف، بينما أجزاء أخرى تحتاج إلى إعادة صياغة، كذلك اعترض البعض على استخدام المونولوغ في السينما لكن صلاح أبو السيف أصر. تحفظ البعض على أن سقوط شخصية إحسان غير مبرر بدرجة كافية، وأن أسلوبها في الكلام يرتفع كثيراً عن مستواها الثقافي. تطرق النقاش إلى مضمون الرواية وأسباب حذف شخصية مأمون المتدين، وأن إبراز الحياة الاجتماعية وما فيها من تفسخ يكاد يطغى على الصراع الفكري بين المبادئ بين قطبي الصراع محجوب وعلي طه. على مدار عام كامل ظل النقاش يروح ويجيء حول المعنى العام والموقف الفكري، وروح الرواية والصراعات التي عاشتها مصر في الثلاثينات. استمرت كتابة وإعادة كتابة السيناريو والحوار من يناير حتى أكتوبر. كان أبو سيف يراجع تعديلات الزرقاني فيكتب ملاحظاته ثم يجري تعديلاته ويُقدم اقترحاته. بعدها تُعقد جلسات مع أعضاء قسم السيناريو لمناقشة السيناريو من جديد. زمنان متناقضان واليوم تنبع أهمية الكتاب من أشياء عدة أولها أنه الكتاب الوحيد من نوعه في تاريخ السينما المصرية والعربية، أنه يجمع بين العمق والبساطة ودقة البحث، اضافة الى أن الفصل الأخير يُسلط الضوء غير المباشر على ثراء الحركة النقدية وقتها. فعندما يكون فيلم في مستوى وأهمية «القاهرة 30» الذي أصبح أحد كلاسيكيات السينما المصرية، وواحداً من أهم مئة فيلم في تاريخها، ثم نقرأ نقداً يُحلل الفيلم بموضوعية ويتحدث عن نقاط ضعفه وسلبياته الفنية جنباً إلى جنب مع محاسنه نكتشف حجم الهُوة السحيقة بين زمنين متناقضين، ونُدرك حقيقة المأزق الذي يُعاني منه النقد السينمائي المصري في الوقت الراهن. مع ذلك، في تقديري، يبقى الجزء الخاص بالسيناريو من أمتع وأهم وأخطر ما في الكتاب. لماذا؟ لأن السيناريو هو العنصر الأول العميق والمؤثر في صناعة الفيلم. من دون سيناريو جيد لا يُمكن أن نصنع فيلماً جيداً حتى لو أُتيحت أقوى وأعظم الإمكانيات المادية والتكنولوجية. ولا يكفي أن تكون رواية «القاهرةالجديدة» عظيمة حتى نضمن فيلماً لافتاً مقتبساً عنها فما أكثر الأفلام الرديئة المقتبسة عن روايات أدبية كبرى!