مما يشد الانتباه في «عروبة اليوم.. رؤى ثقافية» لعبدالعزيز السبيّل (221 صفحة، دار المفردات، الرياض 2010) أنه يصدر عن إطار جامعي اضطلع، بضعة أعوام، بالإشراف على سير وكالة الشؤون الثقافية بالمملكة العربية السعودية. وهذا يعني، من بين ما يعنيه، أن ال«رؤى» التي تضمنها قد أتاحت لها مسيرة حاملها أن تختبر جزئياً على الأقل، بالممارسة في حيّز الواقع أو أن تتأثر به، وإن كان السبيّل قد آثر أن ينصرف عن سرد تجربته الشخصية، ليتخذ تفكيره في الشأن الثقافي صيغة المتحدث إلى نفسه عن قضاياه بصوت مرتفع. ومع أن مقالات الكتاب كانت قد ألفت في فترات متباعدة بوحي، في الغالب، من مناسبات مختلفة ونشرت منجّمة في الصحافة متفاعلة مع الواقع الذي كان يتحرك فيه صاحبُها، فإنها تلتقي في مجموعة من الآراء تنتشر في تضاعيفها متعلقة بالهوية والمعاصرة والإسلام لتكوّن رؤية ثقافية يسعى حاملُها إلى أن يفتح لها أبواب التجسيم في الواقع. ومن هذه الآراء التي ترتكز عليها هذه الرؤية فكرة «الحوار»، فهي تطالعنا في معظم الموضوعات التي تناولها السبيّل وتخترقها من بداية الكتاب إلى نهايته خطاً فكرياً متصلاً وموقفاً ثابتاً يراهن عليه صاحبه في تفتيح بعض الآفاق أمام ثقافة تتخبط في كثير من الأزمات. والذي يستوقف في الكلام الكثير الذي تحدث به عبدالعزيز السبيّل عن الحوار الثقافي أمران اثنان يتعلق أحدهما بالوظيفة الخطرة التي ينهض بها بينما يتعلق الثاني بالصفات التي تتوافر في المضطلعين به. أما أهمية الحوار فقد نفذ إليها صاحب هذا الكتاب من حرص واضح، تعاود مرات، على الإفصاح عن الموقع الذي ينطلق منه. فهو، من ناحية أولى، ينتمي، شأنه في ذلك شأن أي مواطن عربي مسلم، إلى ثقافة ذات تاريخ طويل اضطلعت في فترة من فتراته بدور عالمي لا يجحده أحد. وهو، من ناحية ثانية، منتم إلى حاضر فيه لتلك الثقافة نفسها منزلة لا تبعث لا على الاعتزاز ولا الارتياح. وهو، من ناحية ثالثة، منتم إلى البلاد التي يحمل جنسيتها ولثقافة هذه البلاد في الثقافة العربية منزلة حولها كثير من الجدل. هذه المحددات الثلاثة، وفيها يشترك السبيّل مع معظم المنتمين للثقافة العربية الإسلامية في المنطقة العربية، قد مثلت الخلفية الفكرية التي استند إليها في بلورة الرؤى التي تكونت لديه. فهو من الماضي يتمسك، أكثر ما يتمسك، بالحوار. يقول، من بين ما يقوله، في ذلك: «أحد المبادئ الأساسية التي اتخذها سلفنا الصالح، تتمثل، في أن كلاً يؤخذ منه ويردّ إلا نبي الهدى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم». وأما الحاضر فيدعو إلى مواجهته بالحوار. يقول في ذلك: «إن جزءاً من أزمة واقعنا الثقافي يتمثل في غياب الحوار العلمي، الذي يضمن وصول وجهة النظر، ويرحب بسماع الأخرى. ونجد في كثير من الأحيان حرص كل فئة داخل كل قطر عربي على فرض رؤيتها على بقية أفراد المجتمع، فتحدث أفعال وردودها، فينشأ صراع، ينعكس سلباً على تحرك المجتمع إلى الأمام». وهو، في الشأن الثقافي الذي يهم بلده يقول، على سبيل التمثل بعيّنة من العيّنات: «معظم الناس يذهبون للمحاضرة أو إلى الندوة وقد وضعوا في اعتبارهم ما يريدون أن يستمعوا إليه، فإن استمعوا إلى شيء لا يتفق مع في أذهانهم شنوا حملة على هذا المحاضر، واعتبروه مخالفاً. وكأننا لا نريد أن نستمع إلى كلام جديد». ينتج من هذا أن الحوار الذي حفلت به الحياة الفكرية في العصور الإسلامية الزاهرة قد كان عاملاً فعالاً من العوامل التي ارتقت بها الثقافة وصلحت للحياة، وأن غيابه في الحاضر لا يمكن إلا أن يعتبر سبباً من أسباب ما نتخبط فيه من مراوحة بين التخلف والتهافت. الحوار إذن ضروري ولازم لكل أمة من الأمم لأن الحقيقة ليس لها، بحسب السبيّل، صورة واحدة حتى يدّعي مدع أنه يمتلكها، ولأنه، خارج ثوابت تتصل بالعقيدة والهوية، لا توجد كلمة فصل ينطق بها بعض الناس فيثنّي عليها الآخرون. لذلك كان الداء العضال المتمكن اليوم من ثقافتنا هو المتمثل في سعي كل، مهما كان فاقداً، في كثير من الأحيان، للكفاية والتأهيل، إلى أن يفرض آراءه ورؤاه على كل. يقول المؤلف في ذلك: «يثير التساؤل في كثير من المجتمعات الإسلامية، أن الصوت الأقوى في قضايا الأمة الأساسية وهي قضايا تتصل بالعقيدة والهوية، وحقوق الإنسان والمرأة، ونظام الحكم، وسياسات التعليم، وأطروحات الثقافة، يكون لأنصاف المتعلمين، الذين تنقصهم المعرفة الواسعة بما يطرح على الساحات الفكرية، وبواقع المجتمعات المتخلفة. غير أنهم يملكون من الجرأة على القول ويطرحون في غالب الأحيان ما تودّه العامة، بصرف النظر أن يكون معتمداً على منهج علمي». وأما المعنيّ بالحوار الثقافي فإن عبدالعزيز السبيّل، وإن لم يخصه بموضع أو مواضع من مقالاته يتصدى له فيه بالتعريف، كان يصدر عن مفهوم له يذهب فيه مرة إلى المعنى الوظيفي الذي يعتبر مثقفاً مَن يشتغل بالفكر ومَن يعمل على ترويجه ومرة إلى المعنى النوعي الذي يعد مثقفاً (تمييزاً له عن الخبير) جميع العلماء الذين يتركون مجال اختصاصهم ليدلوا في الشأن العام ومكوناته بآرائهم ويكشفوا عن رؤاهم. يقول في المقصود بالثقافة إنها: «تلك التي تبني الإنسان بالدرجة الأولى كي يتحول من إنسان مستقبل إلى إنسان مرسل، وبالتالي فاعل في المجتمع بشكل أكبر». وفي الحالتين فإن المثقف، في نظر السبيل، ليس خادماً مؤيداً للسلطة أو موظفاً من موظفيها. بل إنه يذهب إلى قوله: «عندما يكون هناك اتفاق مشترك بين السياسي والمثقف، فإن الخاسر الحقيقي هو المجتمع»، ويحتج لرأيه هذا، بعيداً عما قد يفهم منه من اشتراط التنازع والصراع بينهما، بأن طبيعة السياسي تختلف عن طبيعة المثقف مثلما تختلف مطامح هذا عن مطامح ذاك. ومثل هذا الضبط لمصطلح المثقف، وهو في الحقيقة من المفاهيم العصية على التسوير، لا يستثني فقط من الثقافة جميع الذين لا يدخلون في حقله الدلالي فهم غير معنيين بالحوار الذي يبني عليه رؤاه (وهو استثناء يكاد يمتنع عن التجسيم)، وإنما يحصر الحوار في الذين يرتقون إلى مصاف المثقفين بهذا المعنى الذي لا يتسع لسواه. فليس جميع من آنس في نفسه القدرة على فك الخط أو التحق بمؤسسة من مؤسسات الثقافة أو التعليم بمؤهل لأن يشارك في الحوار. يقول عبدالعزيز السبيّل مثلاً: «الجزء الأكبر من الأكاديميين لا علاقة لهم بالثقافة، أعني الثقافة المطروحة للمجتمع». لذلك كان المثقف، بهذا المعنى، يحتاج حتى ينهض بوظيفته، إلى الاعتراف بوجوده وبحقه في الاختلاف والاتفاق مع السائد والمفروغ منه والمتفق عليه من الآراء ومع من ينصرها أو يختلف معها. غير أن هذا الاعتراف، وإن تظاهر كثيرون به، لم يصل إلى حد القناعة لدى الكثيرين، ولم يجد طريقه بعد إلى عادات الناس وتقاليدهم. ذلك أن الآخر ما زلنا نرى منه الوجه الذي يختلف به عنا فنتوجس خيفة. وهو استمرار للنظرة القديمة للآخر المختلف، تعدّه في الغالب عدواً وشراً لا يستحق إلا أن يلغى وإذا تعذر ذلك فأحرى بالمرء أن يشيح عنه بوجهه ويصم عنه آذانه وأن يمعن عنه في الهرب. ثم إن المثقف يحتاج إلى شيء من الحرية لا بد منه «ليناقش بأمان، ويتحدث باطمئنان، ويعبر عن آرائه بكل ثقة». والحرية بهذا المفهوم لم تدخل أيضاً بعد في عاداتنا لترسخ مقوماً من مقومات الحياة. والنتيجة التي توصل إليها هذه الرؤى أن ثقافة الحوار لم تجد بعد طريقها إلى أن تصبح عنصراً مكوناً لواقعنا. فمع أن لفظة الحوار من أكثر الألفاظ تداولاً فإن مضمونها نادر الوجود سواء أكان ذلك في نطاق الأسرة أم في مستوى علاقات الناس بعضهم ببعض أم علاقتهم جميعاً بالمؤسسات وبالسلطة مثلما هو نادر الوجود في العلاقات بين الأنظمة الحاكمة مهما كانت نسب تكتلها في مجموعات أو انفصال بعضها عن بعض. وهذا أمر غير طبيعي في ظرف قربت فيه وسائل الاتصال والمواصلات بين الأفراد والشعوب على النحو المشاهد الآن. فما الذي جعل التعرف إلى الآخر يحدث مثل هذا الارتباك في العلاقة بالذات وبه؟ أيرجع ذلك إلى الثقل الكبير الذي استمر الماضي يرزح به على الحاضر ممتنا في الاتصال بالآخر مشاعر الكراهية والتعصب والحقد أم هو يرجع إلى إساءة استعمال وسائل الاتصال له حتى كأنه قد أصبح يطلب منها المزيد من إذكاء نار التباغض بين الحضارات والشعوب؟ الحقيقة أن عبدالعزيز السبيّل يضع الإصبع على مبحث مشكلة. فإذا كان الحوار ضرورياً وكانت له مثل تلك الأهمية فهل يمكن أن نتحاور اليوم؟ وإلى أي حد يمكن أن نتحاور؟ والحقيقة أيضاً أن ما عرضه في هذه المقالات عن الحوار يحتاج، في تقديرنا، إلى مزيد من التدقيق والتكملة. أما مزيد التدقيق فيتعلق بمفهوم الحوار نفسه ومفهوم المثقف المعني به. فإذا كان الحوار مقوماً من مقومات إنسانية الإنسان، فهو، مثلاً، ليس مما يشترك فيه النوع البشري مع الأنواع غير البشرية، وكان المثقف المعني به هو من يصدع برأي لا ينتظر منه غنماً أو جزاء أو يخدم مصلحة من المصالح أو جهة من الجهات، أو كان، مثلما كان قد ذهب إليه إدوارد سعيد، كائناً بلا هوية وبلا ولاء، فإنه مما لا شك فيه أن الحوار يختلف عن الجدل والمحاجّة والمناظرة إذ هو لا يقوم لا على فرض الرأي ولا على الاستدراج أو الإقناع ولا على إفحام الخصم وإسكاته وإرغامه. قد كان هذا قائماً في ثقافة التبرير التي خيمت وما زالت تخيم على البشرية، ولطالما صرف فيها التماس سبل الإقناع بالفكرة عن الفكرة نفسها حتى كان تاريخ الأفكار تاريخ صراع بين المفكرين أكثر منه تاريخ أفكار. إنه كائن بين المحادثة الحرة والمناقشة والمناظرة والجدل. وتنزُّله في هذا الحيز الخاص يكسبه خاصيات خاصة به. فهو، مثلاً، لا يُنتظر منه الوصول إلى قول فصل أو رأي مطابق للحقيقة يقتنع به هذا الصف أو ذاك من الصفوف المتحاورة، وإنما ينتظر منه أن تفصح الآراء المتباينة عن نفسها. للمتحاورين أن يتحاوروا وللرأي العام مثلما لصاحب القرار أن يأخذ مما يتجلى أمامه واضحاً بما يشاء. وأما التكملة، وهي متعلقة بالتدقيق تعلقاً متيناً، فهي تتمثل، في تقديرنا دائماً، في أن الحوار لا يحد بموضوعات ومجالات دون أخرى فذلك يحدّ من الفاعلية الخاصة به. فلا مسلمات في الحوار ولا قبليات ولا مجالات محرمة. ذلك أنه إذا كان لا يُسلم إلى حقيقة معيّنة أو ينتهي إلى كلمة فصل فهو لا يتضمن لا استنقاصاً ولا ازراء ولا طعناً في جميع ما يؤمن به هذا أو ذاك. وإذا اتخذنا العقيدة مثلاً موضوعاً للحوار فإن الثابت الوحيد أنها موجودة كائنة مكوناً من مكونات حياة الناس. أما الذي قد يختلف فيه فهو وظيفتها في الحياة العملية. وهذا كله يسلم إلى أن مفهوماً من قبيل الحوار لا ينشأ ويتغلغل في المجتمعات التغلغل الذي يجعله مكوناً حقيقياً من مكوناتها إلا إذا رافقه تحول في كثير من المفاهيم التي تمثل قوة جاذبة إلى الوراء، أعني بذلك ثقافة التبرير والجدل والمناظرة وما فيها من رغبة في إفحام الآخر المختلف وإسكاته وقرعه بالحجة حتى ينكفئ ذليلاً. ليس الحوار إذن تجالداً بالفكر وإنما هو إتاحة للرأي المختلف بأن يفصح عن نفسه وأن يظهر ويعرف. فهل يمكن أن نتحاور بمثل هذا المفهوم الآن؟! * ناقد وأكاديمي من تونس.