التصريحات الحادة المتبادلة بين إيرانوروسيا، بعد تصويت الأخيرة على الحزمة الجديدة من العقوبات على الجمهورية الإسلامية لم تترك أثراً في العلاقات بين البلدين. بل إن موسكو بادرت بعد احتجاجها على العقوبات الإضافية الخاصة التي تبنتها الولاياتالمتحدة وأوروبا في مجال الطاقة، إلى التوقيع مع طهران على «خريطة طريق» مع طهران للتعاون في مجالات الكهرباء والطاقة النووية والطاقة المتجددة. ونص الاتفاق على سعي البلدين إلى زيادة التعاون في نقل الغاز الطبيعي ومبادلته وتسويقه إضافة إلى بيع المنتجات النفطية والبتروكيماويات». هذا التطور في العلاقات يخالف توقع كثيرين أن تتدهور العلاقات بين البلدين، خصوصاً أن الجمهورية الاسلامية عبرت عن استيائها من وقوف موسكو مع القرار الجديد لمجلس الأمن الرقم 1929 الذي فرض عليها حزمة جديدة من العقوبات. بل إن رئيسها محمود أحمدي نجاد وجه عبارات قاسية إلى المسؤولين الروس. لكن يبدو أن الإيرانيين الذن انتقدوا السياسة المزدوجة ل «الشيطان الأصغر»، تعلموا من التجربة الأخيرة كيف يغلبون مثله المصالح السياسية والاقتصادية والجيوبوليتيكية على قرار يعتبرون أنه لن يؤثر في مواقفهم وسياساتهم وبرنامجهم النووي. إنها السياسية البراغماتية التي تقف وراء فصل البلدين بين موضوع العقوبات وموضوع التعاون الاقتصادي والتجاري، خصوصاً في مجال الطاقة. والأسباب التي تدفع إلى التعاون كثيرة، كثرة الخلافات القديمة على مياه قزوين واستكمال انشاءات مفاعل بوشهر وتنفيذ التزامات عقود التسلح خصوصاً صواريخ «أس 300»... وأخيراً موضوع العقوبات الدولية. في الأرقام تختزن روسياوإيران معاً نحو 20 في المئة من احتياط النفط العالمي، وقرابة 40 في المئة من مخزون الغاز الطبيعي. من هنا حرص البلدين على التعاون في مجال الطاقة. وقد سعت روسيا منذ مدة إلى تنسيق سياستها الغازية مع قطر وإيران والجزائر. وهي لا تخفي طموحها بقيام تكتل شبيه ب «أوبيك» يتيح لها استمرار التحكم بإمدادات الغاز إلى أوروبا، الأمر الذي يشكل لها ثقلاً يعيد إليها بعض الدور الذي فقدته إثر انهيار المعسكر الشرقي. ويسمح لها بممارسة الضغط أو يساعدها على إقامة حد أدنى من التوازن الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي في ملفات كثيرة تعنيها. ولا حاجة إلى الحديث هنا عما تشكله «خريطة الطريق» النفطية والغازية من أهمية بالنسبة إلى الجمهورية الاسلامية التي يحاصرها الغرب وشركاته ومصارفه عموماً في مجال الطاقة استثماراً وتكنولوجيا وسوقاً. كذلك لا يمكن روسيا أن تفرط بعلاقات التعاون المستجدة مع إيران، بعد عقود من العداء منذ وقوف الشاه إلى جانب الولاياتالمتحدة أيام الحرب الباردة، ثم بعد قيام الثورة الاسلامية التي ساعدت في مقاومة الغزو السوفياتي لأفغانستان. وهي تدرك أن جارتها الجنوبية قوة اقليمية كبرى يتعاظم تأثيرها السياسي والعسكري في ملفات عدة من فلسطين إلى العراق مروراً بلبنان. ولا تخفى حاجة البلدين إلى التعاون الأمني خصوصاً في آسيا الوسطى حيث يشتد التنافس التركي - الباكستاني - الإيراني... فضلاً عن الانتشار الأميركي في بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة وعلى حدود بعضها الآخر، ومثله انتشار الحركات الأصولية في هذه الجمهوريات وتأثير ذلك في منطقة القوقاز، وتالياً في أمن روسيا نفسها. ولا حاجة إلى التذكير بالتفاهم الذي فرضته وتفرضه مصلحة البلدين في ملفات كثير من هذه الجمهوريات لتطويق تمدد هذه الحركات. خصوصاً أن قضية الشيشان تقض مضجع الروس. كما أن طهران تدرك جيداً الحاجة الملحة إلى روسيا سنداً سياسياً في المحافل الدولية، وإن خذلها هذا السند أحياناً، إما مراعاة لمصالحه أولاً وأخيراً، وإما لسوء تقديراتها وتخبطها السياسي أولعدم كفاءة إدارتها وديبلوماسيتها. فهي لم تتوقع مثلاً أن موسكو ستراعي إسرائيل ومخاوفها من الملف النووي الإيراني. لا تراعيها لأن فيها أكثر من مليون مهاجر يهودي يتكلمون الروسية فحسب، بل لأنها تعول على هذا «اللوبي» وعلى تل أبيب لعلها تستعيد بعضاً من دورها في الشرق الأوسط عبر المساهمة في حل أزمته. وهي لا تزال تنتظر بلا جدوى عقد «تتمة» مؤتمر أنابوليس من ثلاث سنوات. مع العلم أن ثمة خلافات كثيرة بين موسكو وتل أبيب، في الموضوعين السوري والفلسطيني... وكذلك الموضوع الإيراني. وإذا كانت روسيا راعت هواجس إسرائيل الأمنية، وراعت أيضاً مصالحها الاقتصادية الواسعة مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، وتماشت مع حاجتها إلى هذين القطبين في سعيها إلى النهوض، وتجاوبت مع رغبتهما في فرض عقوبات جديدة على إيران. إلا أن ذلك لا يعني أبداً أنها تتجاهل شبكة واسعة متنامية من المصالح التجارية مع جيرانها الشرقيين وجارتها الجنوبية بالتحديد، خصوصاً في مجال التسلح. وهي شبكة تدر عليها المال بالمليارات لدعم اقتصادها بما يساعدها على استعادة بعض الدور السياسي المفقود. فضلاً عن أنها تشكل لها أيضاً أداةً للتوازن أو بالأحرى للمساومة مع دول حلف «الناتو» على المستويين العسكري والسياسي والاقتصادي. وقد أحسنت استخدامها حتى الآن في قضية الملف النووي الإيراني، وفي الصراع الاستراتيجي في أوروبا الوسطى والشرقية. في المقابل، تعي إيران معنى الوجود العسكري الأميركي في الغرب، في منطقة الخليج والعراق، ومعنى هذا الوجود أيضاً في الشرق، في أفغانستان. وتعي أكثر أن أبعاد التعاون العسكري بين الولاياتالمتحدةوباكستان بما يتجاوز أفغانستان ومحاربة «القاعدة» و «طالبان». وهي تعرف حتماً موقف اسلام آباد وعسكرييها من أمن الخليج والملف النووي. وتتذكر تصريحات علنية للرئيس السابق برويز مشرف في هذا المجال بأن أمن دول الخليج العربية من أمن باكستان. وأن ليس مسموحاً لإيران بأن تمتلك سلاحاً نووياً لأن في ذلك تهديداً لأمن هذه الدول. وكانت باكستان وقبلها أفغانستان ما قبل اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 تؤدي دوراً حيوياً في إشغال الجمهورية الاسلامية الايرانية بآسيا الوسطى، حديقتها الخلفية، بدل الاندفاع نحو دول الخليج فالشرق الأوسط خصوصاً مع حصار العراق إثر تحرير الكويت. في ضوء هذا الطوق، لا تجد إيران بديلاً من الحفاظ على علاقات جيدة مع جارها الشمالي. يبقى أن السياسة الواقعية التي ينتهجها الروس والإيرانيون، بفعل عامل الجغرافيا والمصالح السياسية والاقتصادية والأمنية المشتركة، قد تساعد البلدين في مواجهة الغرب بالمساومة والمناورة. لكنها ستظل قاصرة عن تغيير مسار المواجهة بين الولاياتالمتحدة وأوروبا من جهة والجمهورية الاسلامية من جهة أخرى في ملفات كثيرة، ليس أولها الملف النووي وليس آخرها مسيرة التسوية المتعثرة في الشرق الأوسط. إن ممارسة الأدوار السياسية الكبيرة تتطلب قاعدة اقتصادية صلبة... وهذا ما لا يتوافر لروسيا حالياً على رغم محاولاتها استعادة دورها «السوفياتي». وكذلك لا يتوافر للجمهورية الاسلامية التي قد تجد نفسها قريباً أمام مزيد من المتاعب الاقتصادية والاجتماعية بفعل العقوبات الجديدة. لذلك قد لا توصل «خريطة الطريق» بين البلدين إلى المحطات والمواقع المرجوة قريباً... وقد يضيعان الاتفاق والتفاهم في الطريق وتعرجاته ومفترقاته. وهو طريق طويل... طويل.