في كل مرّة يطرح فيها دواء على محك النقاش العام، ترتسم في الأفق صورة للعلاقات المتشابكة بين العِلم والسياسة والاقتصاد والقانون والاجتماع. وربما اهتم القارئ العربي بالصورة الفوّارة للتداخل بين تلك القوى، كما ظهرت في النقاش المندلع حاضراً حول دواء «أفنديا»، باعتبارها تجربة مهمة تظهر تداخلات لا يجرى الحديث عنها كثيراً، في المجتمعات الغربية. والأرجح ان تلك التجارب تزيد القلق عن مجريات هذه الأمور عينها في المجتمعات العربية، التي تغيب عنها الشفافية والمسالك المفتوحة للتفاعل. لعل أحدث التطوّرات المتصلة بالنقاش علمياً وقانونياً عن دواء «أفنديا» Avandia، يتمثّل في النداء الذي أطلقته 3 مجموعات من الأطباء، تطلب فيه من مرضى السكري عدم التوقّف فورياً عن أخذ هذا الدواء، مشيرين الى ان الأخبار المقلقة عن هذا العقار هي أقل سوءاً من التوقّف فجأة عن تناوله. وترافق النداء مع قرار اتّخذه «مكتب الغذاء والدواء» FDA الأميركي، يسمح باستمرار تداول هذا الدواء، على رغم مخاوف واسعة من تسبّبه بذبحات قلبية. وأقرّ خبراء ذلك المكتب بالقلق من تسبّب «أفنديا»، وهو الاسم التجاري الذي تنتج فيه شركة «غلاسكو سميث كلاين» عقار «روزيغليتازون» Rosiglitazone، بزيادة معدل الإصابة بنوبات قلبية، لكنهم أشاروا الى أنه لا يسبب زيادة مماثلة في الوفيات من تلك النوبات. ولم تخل عملية اتخاذ القرار في «مكتب الغذاء والدواء» من الخلافات بين خبرائه. والمعلوم ان مبيعات «أفنديا» انخفضت من 3 بلايين دولار في 2006 إلى 1.3 بليون في 2009. ومع ذلك، يُقدّر ان مليوني أميركي ما زالوا يتناولون هذا الدواء. وتوقّعت بعض الأوساط القانونية أن تفرض على الشركة المُنتجة غرامة تاريخية تصل الى 2.4 بليون دولار. قلق ليس من دون سبب اندلع النقاش حول «أفنديا» مع تسرّب تقرير حكومي سري يفيد بأنّ آلافاً من الأميركيين الذين يتناولونه علاجاً للسكري عانوا نوبات قلبية وقصوراً في القلب. وأوصى التقرير بسحب هذا الدواء من السوق. وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، عمدت مجموعة من المرضى الى استبدال عقار آخر ب «أفنديا»، ما سمح بتخفيض نسب إصابتها بذبجات في القلب. والمعلوم أن «أفنديا» يستعمل في علاج السكري من النوع الثاني، وقد تسبب بما يزيد على 300 وفاة حتى الربع الثالث من 2009. وخلص تقرير أعدّه طبيبان من «مكتب الغذاء والدواء»، هما ديفيد غراهام وكايت غيلبيرين، إلى ضرورة سحب هذا الدواء. ويعكس هذا التقرير الداخلي جزءاً من الجدال المحتدم في المكتب المذكور عن «أفنديا». في المقابل، أعلنت شركة «غلاكسو سميث كلاين» أنها أجرت دراسات مكثفة على «أفنديا»، نافية وجود أدلة علمية كافية للقول انه يزيد الإصابة بنوبات قلبية. واستمر الجدال حول هذا العقار منذ العام 2007 على الأقل، حين أصدر «مكتب الغذاء والدواء» تحذيراً عن آثاره المضرّة على القلب. وبعدها، تصاعد الجدال مع تحقيق أجراه مجلس الشيوخ الأميركي، وخلص بعده الى القول انه كان على الشركة المُنتجِة لهذا الدواء تحذير المرضى مسبقاً من مخاطره المحتملة. وفي أواخر 2009، أشارت مذكّرة داخلية في «مكتب الغذاء والدواء» إلى وجود آراء متناقضة حول «أفنديا» داخل المكتب، وطلبت المزيد من التدقيق في شأنه. ووجّه تقرير من مجلس الشيوخ انتقاداً شديد اللهجة لشركة «غلاكسو سميث كلاين». وأضاف التقرير الذي أشرف عليه السيناتور الديموقراطي عن ولاية مونتانا ماكس بوكوس والسيناتور الجمهوري عن ولاية أيوا شارل غراسلي، إلى أنّ «مديري الشركة حاولوا تهديد الأطباء المستقلين، وركّزوا على الإستراتيجيات الواجب اعتمادها للتقليل من أهمية نتائج الأبحاث القائلة بأن دواء «أفنديا» قد يزيد من خطر الإصابة بأمراض قلبية». ولفت بوكوس إلى أنّ المرضى يأتمنون الشركات المُصنّعِة للأدوية على صحتهم وحياتهم، ما يوجب عليها العمل بمسؤولية حيال تلك الثقة. وردّت شركة «غلاكسو سميث كلاين» على هذا التصريح، بإبداء عدم موافقتها على الخلاصات التي توصل إليها تحقيق مجلس الشيوخ، مضيفة أنها لن تعلّق على وثائق داخلية من «مكتب الغذاء والدواء»، بل تُشدّد على أن القرار الرسمي لهذا المكتب يقضي بإبقاء «أفنديا» قيد التداول. وعقب الجدال، طلب مسؤولون حكوميون من هذه الشركة إجراء دراسة تقارن بين عدد المرضى الذين أصيبوا بنوبات قلبية وسكتة دماغية وتوفوا جرّاء أمراض قلبية بعد تناولهم «أفنديا» أو أدوية اخرى، بما فيها الأدوية الوهمية. والمعلوم أن ثمة دراسات تفيد بأن دواء تصنعه شركة منافسة ل»غلاكسو سميث كلاين» يعطي فوائد مُشابهة له في علاج السكري، لكنه أقل ضرراً على القلب. وفي تقريرين منفصلين ظهرا في العام 2008، أبدا الإختصاصيان في «مكتب الغذاء والدواء» غراهام وغلبيرن، شكوكهما علمياً في الدراسة الجديدة التي أجرتها شركة «غلاكسو سميث كلاين». وأشار التقريران إلى أنّ الشركة ربما أجرت الاختبار على مرضى سبق لهم أن تعرّضوا لنوبات قلبية أو آلام في الصدر، على رغم أنّ بعض الدول الغربية حذّرت من استخدام هذا النوع من المرضى ل «أفنديا». وخلص أحد التقريرين الى القول بأنه «لا يمكن تأكيد صحة هذه الدراسة لأنها غير مقبولة». ورفض مسؤولون في «مكتب الغذاء والدواء» التقريرين، مع الإشارة الى أنهما لم ينشرا كاملين لحد الآن. وراهناً، تستمر «غلاكسو سميث كلاين» في تجربتها علمياً على مجموعة من المرضى. ومن غير المتوقع أن تنتهي التجربة قبل العام 2020، على رغم أن الشركة تأمل في تقديم بعض النتائج إلى «مكتب الغذاء والدواء» قبل 2014، لأن براءة اختراع «أفنديا» تنتهي في عام 2012، ما يفتح الباب أمام الشركات التي تُصنّع الأدوية الصنفية الشبيهة «جنريك»، لصنع أدوية مماثلة ل «أفنديا». وفي رسالة بعثها عضوا مجلس الشيوخ باكوس وغراسلي إلى «مكتب الغذاء والدواء»، طُلِب رأي المكتب في التجربة التي تجريها شركة «غلاكسو سميث كلاين»، مع إشارة الى عدم إعلام المرضى الذين يجرى اختبارهم بالمخاوف الرسمية حيال الدواء. وخلص غراسلي الى القول بأن الجدال الداخلي في «مكتب الغذاء والدواء» يظهر الحاجة الى اعادة هيكلته، كي يصان حق الاختصاصيين الذين يبدون اعتراضاتهم على الأدوية. وعي المرضى وتضارب الشركات لم تُعلِم الشركات المصنعة للأدوية المرضى بالمخاطر المحتملة لدواء «أفنديا»، على رغم وجود إشارات تظهر أنّ الدواء قد يتسبب بأضرار. ويتلقى «مكتب الغذاء والدواء» آلاف التقارير أسبوعياً حول أضراره. وأرسل «معهد ممارسات السلامة الدوائية»، الذي يهتم بمراقبة سلامة الأدوية، تقريراً تحليلياً إلى الجهات الرسمية في أواخر العام 2009 أشار فيه الى صلة محتملة بين «أفنديا» وما يزيد على 300 وفاة. في المقابل، تعتبر الشركات أنّ هذا النوع من التقارير لا يعطي دليلاً دامغاً على تسبّب الدواء بمشكلة ما، وأن تسليط الضوء عليها قد يجعل المرضى يعدلون عن أخذ العلاج، كما تشدّد على ضرورة توخّي المزيد من الدقة قبل دقّ ناقوس الخطر. وأعلنت شركة «غلاكسو سميث كلاين» أنّ أكثرية التقارير المتعلقة ب «أفنديا» مرتبطة بالخلاف قضائياً في شأنه. وخلص تحقيق أجراه مجلس الشيوخ، بعد التمعّن بأكثر من 250 ألف وثيقة داخلية خاصة ب «غلاكسو سميث كلاين» إلى أنها أخّرت عملية التدقيق في هذا العقار، وعلى غرارها سار «مكتب الغذاء والدواء» أيضاً. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 مثلاً، أنهت الشركة العمل على دراسة أشارت إلى أن مرضى السكري الذين يتناولون دواء «أفنديا» يعانون من مشاكل في القلب أكثر من المرضى الذين تناولوا الأدوية الوهمية. وبعد شهرين، أرسلت «منظمة الصحة العالمية» تحذيراً إلى الشركة ربطت فيه تناول «أفنديا» بحدوث أمراض في القلب. وخلال اجتماع عُقد في حزيران (يونيو) 2004، لفت مجلس السلامة العامة في الشركة إلى ضرورة التمعّن في الاختبارات السريرية الخاصة ب «أفنديا» لجهة علاقته مع مشاكل قلبية. وطلب المنظمون الأوروبيون للأدوية من شركة «غلاكسو سميث كلاين» إجراء دراسة تدعى «سجل التجارب»، للنظر في المخاطر التي ربما تسبب بها دواء «أفنديا»، خصوصاً مع ظهور إشارات عنها في اختبارات أجرتها الشركة. غير أن تقرير مجلس الشيوخ في 2004، أشار إلى أنّ مديري الشركة كانوا على بيّنة بأن دراسة «سجل التجارب» لم تُجر بصورة جيدة، ما يحول دون الوصول الى إجابة دقيقة عن علاقة الدواء بمشاكل في القلب. وفي تلك السنة، جمع مديرون في الشركة عشرات الدراسات حول «أفنديا»، كي تقارن مع البيانات التي جمعتها الشركة. وأشار تحقيق مجلس الشيوخ إلى أن هذا التحليل أوصل إلى ان «أفنديا» يزيد من خطر الإصابة بمشاكل في القلب بنسبة الثلث. وبدا هذا الواقع مقلقاً لأن ثلثي مرضى السكري يموتون جرّاء أمراض قلبية. وفي 2005، قدّم المديرون التنفيذيون نتائج التحليل البعدي إلى إدارة الغذاء والأدوية وزودوها عام 2006 بالبيانات الأساسية. وفي 2006، أجري اختباران تحت إشراف الشركة حملا اسم «احلم واختار»، وظهرت فيهما دلائل تفيد بأنّ «أفنديا» يضرّ القلب. وفي اجتماع عقده المجلس الاستشاري لطب القلب ومرض السكري في الشركة في 2007، وصفت المخاوف المتعلقة بسلامة هذا الدواء بأنها «مقلقة». وتوصل تحقيق مجلس الشيوخ إلى أنّ الشركة ربما هددت الأطباء الذين أعلنوا أن «أفنديا» قد يتسبب بمشاكل جدية. وفي عام 1999 مثلاً، قال الدكتور جون بيوز، أستاذ الطب في جامعة نورث كارولاينا، في اجتماعات علمية ان دواء «أفنديا» قد يتسبب بأمراض قلبية. وبحسب تقرير مجلس الشيوخ، بعث مديرون في «غلاكسو سميث كلاين» بشكوى إلى المشرف على هذا الطبيب، وهدّدوا باللجوء إلى القضاء. واضطر الدكتور بيوز إلى التوقيع على وثيقة صادرة عن هذه الشركة تعهّد فيها عدم مناقشة مخاوفه حول «أفنديا» علناً. وأعلنت «غلاكسو سميث كلاين» أنها لا تقبل محاولة إسكات الجدال علمياً، وأنها لا توافق على المزاعم القائلة انها حاولت إسكات الدكتور بيوز.