عندما كتبت مقالي السّابق عن «محمد عابد الجابري وتجديد قلق الغزالي الفلسفي»، جاءني تعليقٌ من قارئٍ كريم معاتباً أو مستفسراً يقول: You forgot Sir his studies about the Holy QORAN. وفي الحقيقة أن القارئ محقٌ في استفساره، لأنه لا يمكن الحديث عن الجابري بصورةٍ وافية إلا بالحديث عن الجابري الفيلسوف، والحديث عن الجابري المفسر للقرآن الكريم، وهو ما أردت أن أنبه اليه وأجعله محور المقال السابق ولكن باستشكال فلسفي، من أن الجابري على رغم اعتراضه الكبير على الإمام أبي حامد الغزالي، الذي بدأ حياته فيلسوفاً يرفع لواء الشك ويدعو إلى تحكيم المنطق والبرهان، انتهى في آخر حياته إلى فقيه يرفع لواء الشريعة والأخذ بالمنهج الصوفي العرفاني، كما في كتابه «المنقذ من الضلال»، وهنا وجه المقارنة أو التشابه بين شخصية الجابري الذي سار على الدرب الذي انتقده في الغزالي، بل وبالغ في نقده له، وتحميله مسؤولية الانحراف بالعقل العربي عن جادة الصواب، عندما انتصر في نهاية عمره للنظام البياني العرفاني على النظام البرهاني بمصطلحات الجابري ومفاهيمه. وهذا مدخل الى الحديث عن الجابري الذي انتهي في آخر عمره مفسراً للقرآن بغض النظر عن المنهج الذي اتبعه في تفسير القرآن الكريم، فآخر كتاباته ومقالاته ومؤلفاته هي في علوم القرآن والتفسير، التي توجها بتقديم ثلاثة كتب معنونة ب: فهم القرآن الحكيم «التفسير الواضح حسب ترتيب النزول»، فالسؤال الأول الذي أثرناه بعد أيام من وفاته، وسيثيره كل من سيكتب عن حياة الجابري العلمية ولو بعد قرون، هو عن أسباب هذا التحول في الكتابة والاهتمام، ما الذي جعل المفكر الجابري ينتقل إلى الساحة الأخرى، من ساحة الفلسفة إلى ساحة الدين، وفي تقديري أن هذا التحول وإن بدا مفاجئاً من الخارج، إلا أنه طبيعي لمن شغله الفكر الإسلامي التراثي ولو بالنقد، لأن النقد كان في تصوره مرحلة لا بد منها لتحرير النص مما ألحق به من تفسيرات وشروح كادت أن تغطي على النص نفسه، من هنا ينبغي النظر إلى انسجام مشروع الجابري مع فكره الداخلي، وتوظيفه لعملية النقد كأداة معرفية، بحيث تنتقد العقل المكوّن والجاهز، وليس العقل المكوِّن والفاعل، فنقده للعقل المكوَّن لتفعيل العقل المكوِّن، من أسر العقل المكوَّن، وهذه استعارات معرفية اختارها الجابري بديلاً من مهاجمة المذاهب التراثية من شتى المدارس الإسلامية التاريخية في شكل صريح وعلني. فإذا ما تم تصور ذلك، فإن السؤال التالي سيصبح: هل كان تحرير العقل العربي الفاعل من العقل التراثي يتطلب كل ما بذله الجابري طوال حياته من جهد واجتهاد ومجاهدة مع نقاده ومعارضيه؟ وهل نجح في ذلك؟ أي هل استطاع فعلاً أن يحرر العقل العربي من منظوماته المعرفية المعطلة للعقل المعرفي والعلمي الفاعل، والإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة بل تحتاج إلى عقود وربما الى قرون قبل أن يحكم المؤرخون بنجاحه أو عدمه، ومن تعجل في الحكم فإنه لن يوفق في الإجابة. والأسئلة الأخرى التي تثار على مشروع الجابري لا تقل أهمية عن الأسئلة الأولى، ومنها الأسئلة المتعلقة بمشروع الجابري التفسيري ومنهجه التاريخي، وبالنظر إلى منهج الجابري في نقد العقل التراثي، يحق السؤال إن كان الجابري استطاع بعد نقده للعقل العربي أن يفسر القرآن من غير ثقافة تراثية؟ أي هل استطاع الجابري التعامل مع النص القرآني بعقل حر مكوِّن وغير متأثر ولا خاضع للعقل المكوَن من جانب المفسرين السابقين وعلومهم، إن المطالع لهذا التفسير يدرك أنه رحمه الله لم يستطع تطبيق منهجه المعرفي في تفسير القرآن الكريم، والسبب معرفي أيضاً، فعدم نجاح مشروعه المعرفي في حياته لم يمكنه هو من تطبيقه بحرية، وإلا أوقع نفسه بما حاول طوال حياته عدم الوقوع فيه، وهو الظهور بالمفكر الخارج عن الثقافة العربية الإسلامية، وهو ما لا يؤمن به أولاً، وحاول تجنب الاتهام به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولعل ذلك أحد أسباب انتصاره لبعض المدارس التراثية وبعض علماء المسلمين السابقين مثل ابن رشد وابن خلدون وابن حزم وغيرهم. لذا فإن تفسير الجابري لا ينبغي النظر إليه في معزل عن مشروع الجابري الفلسفي أولاً، وأن الجابري ربما وجد نفسه مضطراً إلى القيام به حتى يبين وجهة مشروعه الفلسفي في نقد العقل العربي، بأنه في نهايته ينبغي أن يوظف في خدمة القرآن الكريم وتفسيره في معزل عن التفاسير التراثية، التي قد تقف عائقاً عن الوصول إلى تفسير عصري للقرآن الكريم، فذهاب الجابري إلى التفسير في نهاية حياته رسالة إلى من يريد فهمه ومعرفة فكره ومنهجه على حقيقته، وحتى لا تضل بوصلة من يقرأونه من غير تطبيق لمنهجه المعرفي في تفسير أهم كتاب بين أيدي المسلمين، بغض النظر عن الحكم من القارئ إن كان الجابري موفقاً في تفسيره، أو وفياً لمشروعه المعرفي في تطبيقه على تفسير القرآن، بل قد يكون مشروعه التفسيري جاء مستعجلاً وقبل أوانه وقبل نضوجه، وكأنه كان في سباق مع الزمن، وسباق مع المرض ولكن لا بد من انجازه حتى يكتمل المشروع في أدواته المعرفية وغايته العلمية وموضوعه في التفسير والاجتهاد، وعلى ذلك أدلة وشواهد تحتاج إلى سرد صفحات مطولة من تفسيره وتعليقاته. * كاتب وباحث تركي