تُوجت المفاوضات التركية الإسرائيلية التي بدأت سرية، بتوقيع اتفاق المصالحة، الذي تضمّن التزام إسرائيل دفع 21 مليون دولار تعويضات لأسر ضحايا السفينة «مرمرة»، وتخفيف الحصار عن غزة وليس رفعه تماماً، مقابل السماح لأنقرة باستكمال مشاريع بنية تحتية في قطاع غزة. كما نصَّ الاتفاق على إلغاء الدعاوى المرفوعة ضد الجنود الإسرائيليين، ورفع درجة التمثيل الديبلوماسي إلى مستوى السفراء. وتجاوز الاتفاق طبيعة العلاقة مع «حماس»، إذ تمَّ الاتفاق على استمرار مقار حركة «حماس» وبقاء بعض قادتها في أنقرة، على أن تتعهد عدم تنفيذ أي عمليات ضد إسرائيل من داخل أراضيها. والأرجح أن حادث الاعتداء على سفينة لنشطاء مؤيدين للفلسطينيين حاولت في أيار (مايو) 2010 كسر الحصار على قطاع غزة لم يكن وحده وراء توتر العلاقة، فقد دخل المناخ بين البلدين مرحلة الشحن مع صعود النفوذ التركي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ودعم أحزاب فلسطينية بعينها، وإغراق غزة بالمال والمشاريع. ناهيك عن ادعاء إسرائيل ظهور ما سمّته حالات لاسامية تؤجج العداء ضد اليهود في الإعلام التركي. وكان بارزاً هنا انتقاد إسرائيل عرض تركيا مسلسلاً تلفزيونياً في العام 2009 يكشف صوراً عن الإرهاب الإسرائيلي. غير أن تحولات المشهد الإقليمي دفعت البلدين إلى إعادة تقويم العلاقة الإستراتيجية وفتح نوافذ في جدار القطيعة القائم منذ نحو خمس سنوات. ومهَّد الطريق لشتل بذور التهدئة؛ الاعتذارُ الشفهي الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى نظيره التركي رجب طيب أردوغان بحضور الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال زيارة الأخير للمنطقة في منتصف آذار (مارس) 2013. والأرجح أن ثمة معطيات دفعت باتجاه تعزيز المصالحة؛ أولها التغيرات الجيوسياسية التي أفرزتها الأزمة السورية، وانعكاساتها السلبية على تركيا، خصوصاً صعود نفوذ «حزب الاتحاد الديموقراطي» (PYD) الذي يقود المعارك بدعم غربي ضد «داعش» في منبج وغرب الفرات، وهو ما تعتبره أنقرة تهديداً لأمنها القومي. وفي وقت تسعى أنقرة إلى إطاحة الأسد ومنع إقامة كيان كردي، ثمة قلق إسرائيلي مرتبط أيضاً بالوجود العسكري والاستخباري الإيراني في سورية، الذي بإمكانه أن يتمدد أيضاً باتجاه الحدود الشمالية لإسرائيل ومرتفعات الجولان، في حال انسحاب انتصارات الجيش السوري شمالاً على الجنوب السوري. ويرتبط المتغير الثاني بتصاعد التوتر التركي- الروسي بعد إسقاط سلاح الجو التركي مقاتلة روسية من طراز «سوخوي 24» في مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2015، وما تلا ذلك من فرض موسكو إجراءات اقتصادية وعسكرية عقابية على أنقرة، طاولت صادرات الغاز الروسية، وهو ما دفع بالأتراك إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي في أذربيجان وقطر وإسرائيل. المتغيّر الثالث يرتبط بأمن الطاقة، خصوصاً الغاز الذي يمثل أحد أهم المتغيرات في معادلة العلاقات التركية- الإسرائيلية، ذلك أن إسرائيل نجحت طوال السنوات الأخيرة في تعزيز تعاونها مع قبرص واليونان في تطوير حقول الغاز فضلاً عن اكتشافها المزيد من حقول الغاز في سواحل البحر المتوسط، الأمر الذي يعني توسعها في تصدير الغاز الفائض لديها إلى الأسواق الأوروبية، ولا يكون ذلك إلا من طريق الأراضي التركية الأكثر أمناً، الأمر الذي يتطلب بالضرورة الاستعجال بالمصالحة التي باتت ملحة للدولتين. وفي الوقت الذي نما استهلاك الغاز في تركيا بشكل مطرد في السنوات الأخيرة، وبلغ 1,7 تريليون قدم مكعب في عام 2014، والذي تتم تلبيته بشكل أساسي عبر الاستيراد من الخارج، وبالأخص من روسيا التي تلبي نحو 55 بليون متر مكعب من احتياجات الغاز في تركيا. ولا تقتصر علاقات الطاقة بين أنقرةوموسكو على ما سبق، فقد وقعت شركة «أتوم ستروي إكسبورت» الروسية عام 2012، عقداً لبناء مشروع مفاعل «آك كويو» النووي في مدينة أضنة جنوب البلاد. كما تكمن صعوبة اعتماد تركيا على الغاز الروسي والإيراني بالأساس في أنها تتزامن مع فتور علاقة تركيا بالبلدين، وتزيد حساسية الموقف مع اقتراب نهاية اتفاقيات توريد غاز البلدين لتركيا بعد سبع سنوات، ما يتطلب مفاوضات جديدة وعسيرة على مستوى الحجم والمدة والسعر. لذا، فإن متغير الطاقة يصبح في صلب عودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل، فالأولى تسعى إلى تأمين احتياجاتها من الطاقة بتنويع مصادرها. في المقابل تعتقد إسرائيل أن استكشافاتها الغازية الجديدة تمنحها فرصةً نادرةً لزيادة قوتها واستغلال الطاقة من أجل تعميق الاستقرار في المنطقة، والدفع نحو علاقات تقوم على المصالح، وليس الحقوق والتاريخ، بين دولها. خلف ما سبق؛ يتمثل المتغير الثالث في إخفاق سياسة «تصفير مشاكل»، فقد توترت العلاقات التركية مع كل من العراقوإيران على خلفية الاصطفاف الحاصل إزاء الأزمة السورية. كما صارت العلاقة أكثر تعقيداً مع إيرانوالعراق ومصر، ناهيك عن توتر لا تخطئه عين مع أوروبا بعد تمرير البرلمان الألماني تقريراً يصف ما حدث في العام 1915 ضد الأرمن بالإبادة، وأصبحت العلاقة أكثر توتراً عشية حديث لبابا الفاتيكان قبل أيام عن الإبادة العثمانية للأرمن. والواقع أن ثمة دلالات تشير إلى توطيد العلاقات بين البلدين في المستقبل، وكان بارزاً هنا تصريح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، الذي اعتبر أن المطالب التركيّة تحققت، وهي رفع الحصار عن قطاع غزّة واعتذار إسرائيلي عن استهداف أسطول الحريّة. من جهته دافع رئيس الوزراء الإسرائيلي عن الاتفاق، وقال عشية زياراته لإيطاليا في 26 حزيران (يونيو) الجاري: «الاتفاق مع تركيا له تأثير هائل»، وأضاف أن «إسرائيل لا تدخل شهر عسل مع تركيا، ولا ترى الأمور بنظارة ورديّة، لكن مصالح إسرائيل دُفِعَت بشكل إيجابي في الاتفاق». في هذا السياق، يبدو التقارب بين أنقرة وتل أبيب مهماً لتركيا لتوطيد علاقاتها المشحونة مع واشنطن التي تعرضت للتآكل طوال الشهور التي خلت، وبلغت ذروتها بعد انسحاب رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو من المشهد السياسي، والذي كان يعتبر حليفاً موثوقاً لواشنطن وصوتاً معتدلاً داخل الحكومة، فضلاً عن أهمية إسرائيل كمورد بديل من الغاز الروسي. القصد أن المصالحة تعد إنجازاً لتركيا على أصعدة عدة، فسياسياً تبدو تركيا في حاجة إلى إنعاش علاقاتها الدولية والإقليمية، لاسيما أنها تعيش فترة سياسية ليست سهلة، فترهقها ضغوط روسيا ولا تسعفها الصداقة التاريخية مع واشنطن ولا عضويتها في الأطلسي. واقتصادياً؛ يمكن أن تكون إسرائيل بديلاً للطاقة عوضاً عن موسكو، وقد تستفيد أنقرة من صادرات الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا من خلال خطوط تمر عبر الأراضي التركية مقابل استثمارات تركية في قطاع غزة بدأت ملامحها بالاتفاق على إنشاء محطات لتوليد الكهرباء وتحلية المياه. * كاتب مصري