كلما خرجتُ من دارنا في الصباح، ورأيت أبي في جوار أمي ملتصقاً بها تحت جدار دارنا يتشمسان، داعبتهما: يا راجل يا عجوز مناخيرك أد الكوز. وفي حركة طفولية خاطفة شددت أمي من ضفيرتها البيضاء في بياض الحليب، هي في الثمانين، وأبي في الخامسة والثمانين، إذا غابت عنه لحظة، تراه مخضوضاً يسأل عنها طوب الأرض، وإذا غاب عنها هنيهة، ماتت في الحياة. هي الوتين وهو الوريد، هي نقطة الدائرة في عالمه، وهو نقطة الدائرة في عالمها، هي عنده المعشوقة المقدسة، وهو عندها المعشوق المقدس، في الليل وفي النهار لا تكف عن الطواف في معبده، ولا يكف عن الطواف في معبدها، وكلاهما سيد الذاكرة في الحضور وفي الغياب. «أنتِ فين يا محاسن»، «بغسل شعري يا حافظ» كلما غسلت شعرها، أمسك هو بالفوطة والمشط، بعد أن يَفُط قلبه في يديه، يجفف شعرها ليمشطه، ولما تتساقط قطرات الماء من شعرها، يداعبها بأصابعه في شعرها «يا محاسن تعالي كده، لأ تعالي كده». ضاحكة في خضر وأنوثة «ياراجل سيب الحاجات دي لعيالنا» «ياوليه تعالي كده». وينهمك في تمشيط شعرها، ويذوب فناً ومحبة في تضفيره قائلاً: «ها.. أضفر ولا أخليها لك تسريحة ليلى مراد؟» أحببت اسم أمي من جمال نُطق أبي به. «أنا رايح أطل ع الغيط يامحاسن» «بالسلامة يا نور عيني متتأخرش». تحت الجميزة، وقف صامتاً صمتاً، حين رأى حقله ضامراً، لم يستو ربيعه بعد، وسرعان ما عاد إلى الدار، حين رأى أمي على غير عادتها، سألها «مالك يا محاسن» «قلبي بيوجعني» «سلامة قلبك يا جميل» وأخذها في حضنه يدلك قلبها، يُمسد شعرها، يربت على خدها، يميل بها يميناً وشمالاً، كأنها طفلته الحبيبة «أنتِ زي الحصان أهو» قالت «ربنا يجعل يومي قبل يومك يا حافظ». في الرابعة فجراً لما ثقُل جسدها في حضنه، رفع وجهها إلى وجهه... ظل مبحلقاً في الحائط لا يريم حتى السادسة صباحاً، وهي لا تزال في حضنه، في السادسة وعشر دقائق توجهت إليهما لأودعمها قبل سفري، كان ما عملا برأسه على رأسها، فقد داعبته كالعادة «ياراجل يا عجوز... مناخيرك أد الكوز». ما إن هززته من كتفه، حتى وقع كلاهما على الأرض لا يتحركان.