لا يكاد السجال يتوارى حول السياسة التركية النشطة عربياً، دوافعها وأهدافها ومحدداتها وآفاقها، حتى يستجد ما يستدعي استئنافه. وأخيراً أضحى من السهل تكييف المعطيات والمدخلات التركية المستجدة تحت باب المواقف الإيجابية بالنسبة للقضايا العربية الساخنة. فمن الملاحظ تماماً أن أنقرة راحت تغض الطرف عن عوامل التوتر وتصعد مستويات التعاون مع العواصم العربية في جواريها القريب والبعيد، بينما أحاطت علاقتها بإسرائيل بهالة من الفتور، بل واستنفرت ضد تل أبيب وحملت عليها وشهرت بها، ومضت إلى تنفيذ خطوات عقابية بحقها ووقفت في طليعة العاطفين على رفع الحصار عن غزة، وعرضت نفسها وسيطاً للمصالحة الفلسطينية الداخلية. وعموماً ما عاد كثير من العرب يشعرون بأن الجار التركي يخبئ لهم عصياً في الدواليب أو يعد لهم مفاجآت تكثف همومهم وتثقل عليهم. غير أن الاتفاق عربياً على هذا التشخيص لا يوازيه توافق بين المتناظرين على تفسيره واستكناه أسبابه ومستقره ومستودعه في الحال والاستقبال. فالأسئلة بهذا الخصوص تطرق العقل العربي على الصعيدين النظري الفكري والرسمي الحركي من دون ترجيح إجابة بعينها. ضمن الإجابات الأكثر تداولاً في هذا الإطار، نعثر على مقاربة أولى تتأبط حذراً تجاه التحركات التركية، بحسبها تنطلق من قناعات موقتة غير مبدئية، وربما بلغت حد الانتهازية المفرطة. فأنقرة مشغولة في التحليل الأخير بمساومة عالم الغرب، لاسيما الاتحاد الأوروبي، عبر التلويح بخيارات أخرى تثير مخاوفه من التحول شرقاً وجنوباً، حيث الدائرة العربية الإسلامية المغايرة. وفي حال ابتلع الغرب الطعم وخضع للتداعيات والمخاوف المترتبه عليه، فإن السياسة التركية ستعيد توجيه البوصلة نحوه مجدداً، ملقية بقضايا العرب والمسلمين ظهرياً. ويذهب أصحاب هذه الرؤية إلى أن أنقرة ليست بوارد التخلي عن «الحلم الغربي» لمصلحة الغوص في وحول الشرق وحياته المضطربة. في المقابل، يعتقد آخرون بأن التعاطف التركي المشرقي الراهن هو توجه أصيل لا مراء فيه أو رياء، لاسيما في ظل قناعات حزب «العدالة والتنمية» الحاكم والنخب القريبة منه. وأن ثمة استعادة للمسار التاريخي الطبيعي الذي انحرفت عنه تركيا بين يدي مرحلة أتاتورك وورثته في شكل لا يتسق وفطرة غالبية الشعب التركي. وتمثل هذه الاستعادة أو الصحوة رداً مفهوماً ومعقولاً على نظرية الارتماء في حضن الدائرة الغربية التي ووجهت مطولاً بالاستعلاء والفوقية. ويتصور هؤلاء أن الترحيب بهذه الصحوة التركية (العثمانية بنظر البعض) ومحاورتها والتلاقي معها في منتصف الطريق، سيجعل من تركيا رديفاً للشرق العربي والإسلامي، فيما قد يؤدي النفور منها والتربص بها إلى ردود أفعال سلبية تملك أنقرة الكثير من مقوماتها وأوراقها. وفي مقاربة أخرى، أكثر عمقاً وأخذاً بنظريات العلاقات الدولية وتقاليدها التي تمزج المصلحة بالمبادئ، يدفع البعض بأن تركيا «العدالة والتنمية» تنطلق في سياستها الراهنة من منظور يوازن بين علاقاتها بالدوائر الإقليمية. آية ذلك أنها لم تتخل عن طموح الالتحاق بأوروبا ولا غادرت تحالفاتها الغربية متعددة الأبعاد والوظائف، بل إنها لم تقطع صلاتها مع إسرائيل عاجلاً على النحو الذي يفترض بعد أن أهدرت الأخيرة دماء تركية زكية وعرضت كرامة النخبة الحاكمة في أنقرة لمحنة شديدة. وربما لاحظ البعض أن ردود أفعال بعض الدول اللاتينية على التصرفات الإسرائيلية في مناسبات بعينها كانت أكثر قوة وجرأة مقارنة بأصداء القرصنة على قافلة «مرمرة وأخواتها» لدى هذه النخبة! والحق أن أكثر الزعماء الأتراك إظهاراً لعواطفهم وأحانينهم المشرقية وانحيازاً للقضية الفلسطينية، عززوا احتمال صدقية هذا التصور. في 13 حزيران (يونيو) الماضي صرح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بأن السياسة الخارجية لبلاده لم تغير محورها متعدد الجوانب، وجدد نداءه إلى الاتحاد الأوروبي بالسماح لتركيا بالانضمام إليه. وبعد أسبوعين مضى أردوغان إلى أبعد من ذلك حين أشار إلى أن «تركيا تنظر إلى إسرائيل كدولة صديقة»، وعرض لإعادة الدفء مع تل أبيب شروطاً لا تعد في التحليل الأخير صعبة التحقيق! ليس للعرب، ولا للفلسطينيين بالطبع، أن يطالبوا تركيا أو ينتظروا منها إجراء انعطافة حادة في توجهاتها الخارجية الإقليمية ولا أن تدير ظهرها للغرب وإسرائيل في شكل انقلابي. هذا مطمع لا يتسق وأصول إدارة العلاقات الدولية من جانب قوة إقليمية كبيرة، ضفرت لها مع هؤلاء الأخيرين غزلاً قوياً من المصالح والمواثيق التي لا يمكن نقضها بسهولة أو في شكل انفعالي. ثم إنه يجب ألا يغيب عن الخواطر أن آليات صنع القرار في أنقرة لا تجيز لنخبة «العدالة والتنمية» الحاكمة إطلاق العنان لتوجهاتها المشرقية بلا ضوابط، حتى إن كانت هذه التوجهات وحيدة وصادقة ولا تنازعها كوابح الأتاتوركية ومواريثها المبثوثة في تضاعيف بعض القوى المؤثرة والفاعلة في الحياة السياسية كالمؤسسة العسكرية. * كاتب فلسطيني