يحمل الروائي الفرنسي ريشار ميّيه «بطلته» اللبنانية التي تظل مجهولة الإسم، الى الريف الفرنسي لتشهد هناك، وسط البيئة الغريبة، حالاً من الانهيار، كانت حملت معها بذوره من «تربة» الحرب أو الحروب في لبنان، وكانت آخرها حرب تموز 2006. إنها «بطلة» روايته الجديدة «النوم فوق الأرمدة» (دار غاليمار، باريس، 2010) التي تعاكس وجهة الكثير من «أبطاله» السابقين الذين يأتي بهم عادة من فرنسا الى لبنان، وكان آخرهم بطل روايته «الاعتراف السلبي» وقد جاء الى بيروت خلال الحرب ليقاتل في صفوف اليمين. وبدت هذه الرواية الضخمة التي صدرت قبل عامين، احدى ملاحم الحرب اللبنانية ولكن من وجهة نظر «البطل» أو الراوي الفرنسي. أما رواية «النوم فوق الأرمدة» فتختلف عن السابقة وعن معظم روايات مييه التي حضرت فيها أطياف الحرب اللبنانية. ولعلّ هذا الروائي الذي عاش ردحاً من طفولته ومراهقته في لبنان لم يُشف حتى الآن من «جرح» الذاكرة الأولى، ذاكرته اللبنانية التي هي بمثابة وجدان عميق يحتلّ الروح والقلب. وقد يستحقّ ريشار مييه أن يُسمى كاتباً فرنسياً، لبناني الهوى، لبنانياً في المعنى الإشكالي لهذا الانتماء المتخيّل أو الافتراضي. ولعل الأعوام التي قضاها في لبنان في إحدى مراحل عمره الحاسمة والمؤثرة، جعلته يعي عن كثب معنى الهوية اللبنانية الشائكة وربما «القاتلة» بحسب تعبير أمين معلوف. تختلف الرواية الجديدة عن أعمال ريشار مييه السابقة بجوّها كما بعالمها الذي يبدو هنا داخلياً، وحتى بشخصياتها ذات الملامح الغريبة جداً. انها رواية مناخ، لا أحداث فيها ولا وقائع ولا مرويّات، أشخاصها أقرب الى الأطياف، يتكلمون قليلاً، منكفئون على أنفسهم، منعزلون أو معزولون. وقد تولّت فعل السرد البطلة - الراوية، المجهولة الإسم التي تعترف ان اسمها لا أهمية له، لكنها في المقابل لم تتردد في إعلان اسم اختها (مدام شبلي أو حنان) وكذلك إسمَيْ ولدَيْ شقيقتها (ناجي وليلى) اللذين اصطحبتهما الى هذا الريف الفرنسي (الليموزان) هرباً من نار حرب تموز. تذكر الراوية أيضاً اسم السيدة التي استضافتهم في المنزل القديم والغريب الذي يدعى «لورا» (الجرذ) والذي سرعان ما أيقظ هواجسها أو وساوسها فبدت كأنها تهذي. أما المرأة الفرنسية الغريبة الأطباع فتدعى «مدام رازيل» والسائق أو الخادم «ليون»، وهذان يختصران حركة الحياة في هذا المنزل المهجور والبارد. يهيئ الكاتب الجوّ القاتم لروايته منذ اللحظات الأولى التي تصل فيها المرأة اللبنانية مع الولدين الى المنزل الغريب. ومنذ الوهلة الأولى تشعر بنفور من مدام رازيل ومن البيت وحتى من المنطقة نفسها. وعلاقتها بهذه «البيئة» تزداد اضطراباً فلا تتمكن من المصالحة معها. انها تكره حتى رائحة البيت التي لا توصف كما تقول، والتي تشبه رائحة الحطب القديم. تكره أيضاً غرفه، المفتوحة والمغلقة، وقبوه المظلم الذي يرقد فيه ما تسميه «النبيذ المظلم». لقد اعتراها الخوف منذ دخولها هذا البيت، خوف غامض لم تعرف سبباً واضحاً له. وعندما تسألها مدام رازيل مما تخاف، تقول لها انها تخاف من كل شيء: الرائحة والظلال والغرف والضوضاء المجهولة أو الأصوات التي كانت وحدها تسمعها والتي تسميها «نواحات الليل». حتى الليل بدا مختلفاً هنا في نظرها، عن ليل بيروت وليل قريتها جزين، حتى الشمس والنهار. هكذا تراءى لها هي التي تحمل عزلتها في قلبها كما تعبّر، والتي أودى انفجار بأمها عام 1976، والتي باتت عاجزة عن مشاهدة صور الحرب: «صور الحرب تجعلني أخجل من خوفي، كنت أتحسّر لأنني لم أمت هناك، أبكي من دون توقف، كان عليّ أن أوغل في عمق الليل بل في عمق الظلماء التي يحملها الإنسان في ذاته: هنا الليل الحقيقي» تقول. انها امرأة على شفير السقوط أو الانهيار، هربت من جحيم الحرب اللبنانية لتقع في جحيم الخواء الروحي الذي حوّل المكان من حولها الى فسحة خاوية. تعترف «البطلة» انها مصابة ب «الميغرين» وأنها تدمن حبوب «الفاليوم» وأنها امرأة وحيدة: «لطالما كنت وحيدة، في أقصى حالات الوحدة، تلك لا يمكن لحظها». حتى الولدان، ولدا شقيقتها، ناجي وليلى، تشعر حيالهما بالحيرة، فهي كما تقول عن نفسها ليست مهيّأة للاهتمام بالأولاد ولا تعرف ان كانت تحب الأولاد أصلاً، بل ان كانت تحب البشر نفسهم. فهي لم تعرف سوى الحرب في حياتها ولا أمل كبيراً لديها. بل تعترف: «لم تكن لي حياة يوماً، لم أكن شيئاً». ثم تسأل نفسها: «أليس لي، مثل الآخرين، الحق في أن أكون؟» وشيئاً فشيئاً تشعر أنها لم تعد راغبة في الكلام، وربما عاجزة عنه. وقد يكمن هنا أحد ملامح الانهيار الذي بدأ يصيبها. وهو يبلغ ذروته عندما تروح تتوهم أن ثمة زواراً في الليل، وأن ثمة أشباحاً وأطيافاً في البيت، وأن يداً فتحت مصاريع نوافذ الممشى، وأن أحداً كان يجلس على الكنبة في الصالون... ولا يدري القارئ ان كانت هذه «الوقائع» متخيلة أو متوهمة أو هلوسات وكوابيس أم أنها حقيقية. فاللعبة التي تبرز هنا لا تخلو من المناخ البوليسي النفسي، وقد التقط الكاتب خيوطها جيداً ونسجها ببراعة. عالم غامض، يتراوح بين الواقعية واللاواقعية، وكلتاهما ممكنتان ومفترضتان: «كنت أجد نفسي في ليل الليل» تقول البطلة - الراوية. وليس مستغرباً أن يزداد خوفها من «المكان» عندما تحكي لها مدام رازيل عن مقبرة الكلاب والقطط، وعن المصير المجهول للعائلة التي كانت تقطن المنزل. وكان يخيل اليها أن نظرة مدام رازيل «كانت تبصر ما لم أكن أبصره». وكان ينقص المطر والبرق كي يضفيا على المكان مزيداً من القتامة والغموض، خصوصاً أن نار البرق سقطت على شجرة الأرز في الحديقة وقصفتها. وهذه أرزة لبنانية زرعت هناك وبدا انقصافها رمزاً لانقصاف هذه المرأة التي جاءت من لبنان الى هذه المنطقة الفرنسية النائية لتنهار وربما لتجنّ. وهذا ما تؤكده خاتمة الرواية عندما راحت الراوية تركض مسعورة خوفاً على الولدين، ناجي وليلى، من مدام رازيل وخادمها اللذين اكتشفت (أو ظنت أنها اكتشفت) بالصدفة أنهما مجرمان. وقد أوحت لها بهذا السرّ امرأة صادفتها في احدى نزهاتها في الغابة وكانت تاهت هناك. وأخبرتها المرأة التي تملك مزرعة أن مقبرة الكلاب في البلدة هي مقبرة للأطفال، وأنها لا تعرف امرأة تدعى مدام رازيل، وأن صاحبة البيت الغريب قتلها مجرم جزائري قبل أربعين عاماً... شاء ريشار مييه أن يبقي روايته بلا خاتمة، أو شاء لها خاتمة مفتوحة أو مجهولة. بل شاء أيضاً أن يدع الغموض يسيطر على الخاتمة كما على الشخصيات الواقعية واللاواقعية، فلم يعلم القارئ ان كانت المرأة المزارعة هي التي تهذي أم الراوية نفسها وإن كانت مدام رازيل مجرمة. وهنا يكمن جمال هذه الرواية، الرواية الملغزة، ذات النزعة النفسية المبهمة وذات المنحى البوليسي الفلسفي أو الميتافيزيقي. واللافت أن الروائي شاء أن يكتب روايته على لسان هذه الراوية التي تولت فعل السرد حتى النهاية وكأنها هي التي تكتب روايتها في ما يشبه المذكرات المستعادة. والمذكرات هنا تختلط فيها أطياف المكانين (لبنان والريف الفرنسي) والزمنين (الحرب اللبنانية والعزلة الفرنسية) عطفاً على الماضي البعيد والقريب... يكتب ريشار مييه روايته هذه بما يسميه هو «إحساسه» الخاص باللغة الفرنسية (كما يفيد عنوان أحد كتبه). فاللغة بديعة في ايقاعها والتفافها على نفسها كما في جملها المنسوجة على طريقة مارسيل بروست أحد «أساتذة» الكاتب. واللافت أنه جعل بطلته - الراوية تتقن الفرنسية وتهوى الأدب، وقد أدخل بعض التعابير العامية اللبنانية بالفرنسية حفاظاً على الحقيقة اللغوية للحالة التي تمثلها هذه المرأة اللبنانية الفرنكوفونية التي تتذكر دوماً أن خالتها كانت تصف فرنسا ب «الأم الحنون». لكنها عندما جاءت الى فرنسا لم تدرك هذا الحنان الذي كانت افتقدته طويلاً في بلدها الأم: لبنان.