تتفاوت الأحكام التعزيرية من قاض لآخر، إذ قد يتحد الجرم ويختلف العقاب وفقاً لرؤى ومعايير واعتبارات إما زمانية أو مكانية لدى القضاة أو غير ذلك، إلا أن البعض رأى أن ذلك يخل بمبدأ المساواة بين مرتكبي الجناية الواحدة في حين يؤكد آخرون أن تفاوت الأحكام من الرحمة بالناس، على الأقل نظرياً، ويفيد مختصون أن تقنين الأحكام القضائية حتى وإن طبق فإنه لن يلغي تفاوت الأحكام. يقول القاضي السابق محمد الشامي: «تفاوت الأحكام الشرعية، ليس فيه إجحاف أو ظلم بل هو رحمة للناس وتحدث في المسائل التي ليس فيها نص، ويكون فيها الاجتهاد مفتوحاً أمام القاضي». وأقر بأن هناك تفاوتاً في الأحكام «هذا التفاوت حاضر أنا عملت في القضاء 29 عاماً في محكمة عسير وجازان وأجد التفاوت موجوداً، بحكم الزمان والمكان والمجتمع، فالمجتمع في بلد يختلف عن مجتمع آخر، والجرم في رمضان يختلف عن غيره». وأوضح أن تفاوت الأفهام لدى القضاة حتى لو كان موجوداً فإن القاضي يحرص على المجتمع ويقدم المصلحة على كل شيء، ولذلك لم يحبذ التقنين وإنما رأى «أن تبقى الأحكام متفاوتة وترجع للقاضي، ومسألة التفاوت موجودة في كتب الفقه». من جانبه، ذكر الأكاديمي في جامعة الإمام محمد بن سعود الدكتور علي الشبل أن «الأحكام الشرعية القضائية على نوعين، حدود محددة من الشرع الشريف لا خلاف في تطبيقها وتأثيرها، وإنفاذها، والنوع الثاني أحكام متعلقة بالاجتهادات، المسماة بالتعزيرات، وتختلف بحسب اجتهاد الحاكم الشرعي في ذلك الذي هو القاضي، فالقضية المعينة في حيثياتها وملابساتها وأسبابها ودواعيها وأثارها على الفرد أو المجتمع أو الدولة أو الديانة، ترك للقاضي مجال واسع للاجتهاد المناسب فيها، إذا كان أهلاً لذلك، والدليل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذ إلى اليمن قال بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: إذا لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله (وهذان هما الحدود). قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد برأي ولا آلو (أي لا أفرط ولا أتجاوز)، فضرب الرسول على صدره، وقال: الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله». وأضاف: «فهذا الشق الثاني هو التعزيرات المبنية على الاجتهادات، في الأحوال المعينة بما يتناسب مع أحكام الشرع ومقاصده من حيثياتها وعواقبها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، فإذا أخطأ فله أجر واحد» هذا ميدان الاجتهاد، يكون فيه القاضي المتأهل مأجوراً على اجتهاده. وحول تفاوت الأحكام الشرعية المتعلقة بالتعزيرات أفاد الشبل أن له اعتبارات عدة، منها اعتبار الجريمة نفسها، ومنها اعتبار الفاعل والزمان والمكان والأثر، ومنها اعتبار حكم الشريعة في الحد ذاته، وهذه أنواع مختلفة في الاعتبارات تجعل القاضي الشرعي ينظر لها بمجموعها لا بمفردها. ونوه إلى أن الجرم في الحج أو رمضان أعظم من غيرها، والجريمة في المكان المعظم كالمساجد أو مكة أعظم من غيرها، والجريمة في أماكن اجتماعات الناس غيرها في البوادي أو الأماكن النائية، والجريمة على المعصومين ليست كما على غير المعصومين، وهكذا، مؤكداً أن هذه اعتبارات مؤثرة في الأحكام وفي تباينها. وشدد على أن أحكام الشريعة سمحة، لأنها من الله وليست من الناس. «فتفاوت الأحكام الشرعية منضبط لا سيما في قضائنا في السعودية». التفاوت ليس حكراً على محاكمنا وأشار إلى أن هذا الانضباط يعود إلى درجات متفاوتة في التقاضي فهناك المحكمة الجزئية، والعامة، والاستئناف، والمحكمة العليا، مفيداً أن الأحكام التعزيرية لدينا تحقق أكبر قدر ممكن من مقاصد الشريعة. واعتبر الدكتور محمد النجيمي أن تفاوت الأحكام أمر طبيعي، «قد يحضر لدي شخص متعدد الجرائم وآخر للمرة الأولى فيكون لديه مخففات الجريمة أما متعدد الجرائم فيكون عليه مشددات، لذا لا يستبعد تباين في الحكم «قد يحدث أمر واحد ويختلف الحكم بين رجلين، لوجود مخففات لأحدهم ومشددات للآخر ولا تظهر للناس»، لافتاً إلى أن المخففات والمشددات توجد في التعزيرات وكذلك في الحدود الأساسية. وتطرق إلى أن تفاوت الأحكام ليس حكراً على المسلمين، بل «يوجد التفاوت في المحاكم البريطانية والفرنساوية»، ولم يرجع التفاوت إلى فهم القضاة، ووصف مراحله بأنها معقدة جداً، مفيداً أن القاضي عليه رقابة وتفتيش، وبالتالي: «العملية ليست بالسهلة، ولا يمكن أن تخضع لأهواء». وحول رأيه في تقنين الأحكام ودورها في ردم هوة التفاوت قال: «التقنين قد ييسر الأمور ويسهل على القضاة ولكن سيبقى التفاوت حتى لو كان هناك تقنين». الحدّ من التفاوت قدر الإمكان من جانبه، شدد الدكتور يوسف بن أحمد القاسم على من يتولى جهاز القضاء أن يراعي مسألة التخفيف من هوة التفاوت بين الأحكام القضائية قدر الإمكان، وذلك بتوسيع قاعدة قضاة التمييز، إذ يكون عددهم أكثر مما هو عليه الآن، وأرجع ذلك إلى أن غالبية القضايا تمر عبر التمييز، وضرب مثلاً بقوله: «جميع الأحكام المتفاوتة الصادرة من محاكم منطقة عسير ومحاكم المنطقة الغربية وتبوك تمر عبر هيئة واحدة للتمييز، وهذا من شأنه أن يحد من تفاوت الأحكام لأنها جميعاً تطبخ تحت نار واحدة، وهكذا في ما يتعلق بهيئة تمييز الوسطى، وهذا لن يكون بالمستوى المطلوب إلا بعد تعيين أكبر قدر ممكن من قضاة التمييز، إضافة إلى نشر الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم (وهي تطبع تباعاً منذ مدة) لتكون بمثابة سوابق قضائية، يستضيء بها القاضي، ويستنير بمسبباتها وأحكامها، من دون أن يلزم بأحكامها، وبهذا يجمع بين حسنتين، حسنة الاستفادة من هذه الأحكام للتخفيف من حدة التفاوت في الأحكام، وحسنة فسح المجال أمام القاضي للاجتهاد في القضية، أما فكرة تقنين الأحكام، فهي من وجهة نظري، فكرة قديمة، تغلب سلبياتها على إيجابياتها. وأوضح السلبيات والإيجابيات وفقاً لما كتبه في موقع الفقه الإسلامي أن التقنين لا يحل مشكلة التفاوت في الأحكام، ولكنه يحد منها بدرجة ما، لأنه في كثير من الأحيان لا يعالج مشكلة اختلاف ملابسات كل قضية، وما يتعلق بها من سوابق. وأضاف: «التقنين وإن أعطى أحكاماً قضائية واحدة، لكن يبقى الأهم وهو تحديد مناط كل قضية، وهذا يختلف تحديده من قاض لآخر، حتى مع وجود التقنين، كما أشار إلى أن التقنين يحاصر ذهن القاضي في زاوية ضيقة، وربما أحياناً يضطره لوضعه في الدرج؛ نزولاً عند قوة المادة المقننة. ولفت إلى أن القاضي في كثير من الدول المتقدمة لا يلزم بمواد مقننة، وإنما يفسح المجال لاجتهاده في القضية، مستفيداً من السوابق القضائية وغيرها. وخلص إلى أن «التقنين من الأمور التي يجب أن ينظر فيها إلى الجانب السلبي، كما ينظر إلى الجانب الإيجابي، ويوازن بينهما، ولاسيما أن أكثر التفاوت الموجود في الأحكام، هو في ما يتعلق بقضايا التعزير، وبعض القضايا المالية، ولهذا فإن الحاجة لو كانت، فإنها ينبغي أن تقدر بقدرها».