لعل أجمل ما يمكن أن يقع بين يديك في هذا الصيف عدد خاص من مجلّة عنوانه «اختبر نفسك في الفلسفة». هذا العدد الجميل أصدرته مجلّة «لوبوان» الفرنسية في سلسلة «ألعاب» (أو «حزازير» كما يقال بالعربية) وغايتها «تسلية» القراء في العطلات الصيفية. وقد يسأل قارئ عربي مثلي: هل يمكن إخراج «ألعاب» مسلّية من «جعبة» الفلسفة التي غالباً ما تميل الى الرصانة والتعالي و «العبوس»؟ ترى ألم ننظر هكذا الى الفلسفة؟ ألم نفهمها كما علّمنا الفلاسفة الذين يبدون عادةً متجهّمين، بحواجبهم المعقودة، ونظراتهم المترفعة ووقارهم ورهبتهم...؟ هل يمكن الجمع بين الفلسفة و «اللعب» في معناه اليومي والطريف؟ أليست الفلسفة نقيض المرح واللين والرخاء؟ أليست هي الحكمة التي لا يدركها إلا المختارون كما قال الفلاسفة الأقدمون؟ أليست هي مقتصرة على النخبة ونخبة النخبة، وبعيدة كلّ البعد عن العامّة؟ في هذا العدد الخاصّ الذي يجعل من الفلسفة مادّة ل «اللعب» يكتشف القارئ - لا سيّما العربي - أن الفلسفة يمكنها أن تكون أليفة وصديقة، وأنّ أسئلتها العميقة والمغلقة يمكن أن تتوجّه الى القراء العاديين أو اليوميين فتسلّيهم وتختبر معرفتهم دون ادعاء أو افتعال. وقد لا يستغرب القارئ الفرنسي أو الغربي عموماً صدور مثل هذه المجلات «المفخخة» التي تخاطب عقله وحواسّه في آن واحد، فأكشاك الصحف والمكتبات تغصّ بمجلات مماثلة تصدر دورياً ويميل معظمها الى النزعة الفلسفية، وكأن الفلسفة أضحت بمثابة «شرْك» تصطاد المجلات عبره قراءها، أو بمثابة غواية توقعهم في حبائلها. لا يُستغرب ازدهار الفلسفة الآن في أوروبا كما في أميركا وسواها. ويمكن الكلام عن ازدهار عام لها - لئلا أقول شعبياً - خارج جدران المعاهد والأكاديميات، ازدهار في الحياة العامة، في «الشارع»، في المقاهي واللقاءات الحية والمرتجلة في أحيان. كم قرأنا قبل فترة عن مقاهٍ للفلسفة في باريس ومثلها أخيراً في لندن وبرلين وسواهما. والمجلات لا تكفّ عن إصدار أعداد خاصّة عن الفلاسفة القدامى والمحدثين، وعن الفلسفات المتعدّدة بمذاهبها ومدارسها وروّادها، وعن العلاقة بين الفلسفة والدين والفلسفة والأدب والفلسفة وسائر العلوم الإنسانية. وكم بدا مثيراً أن تُقرأ المسيحية في هذه المجلات كفلسفة وكذلك البوذية والكونفوشية وسواها.. لقد أصبحت الفلسفة اليوم في الكثير من الأوساط الأوروبية بمثابة دين جديد، ولعلها تسعى الى الحلول محلّ الدين في الغرب. وقد يُفسَّر ازدهارها العام (أو الشعبي في معنى ما) انطلاقاً من مزاحمتها للعقيدة المسيحية وسعيها للإجابة على الأسئلة التي كانت المسيحية سابقاً تملك أجوبة لها. هذا في الغرب الذي يشهد حالاً من القلق الحضاري والاضطراب، علاوة على المآسي الوجودية اليومية، مآسي التكنولوجيا التي اجتاحت الحياة وجرّدتها من إنسانيتها، مآسي «السوق» ومآسي العولمة ومآسي الحروب التي تدفع الشعوب المقهورة ثمنها... أما في عالمنا العربيّ فلا تزال الفلسفة وقفاً على «المشتغلين» بها، على المفكرين الذين نادراً ما يُسمّون فلاسفة، كما على دارسي الفلسفة وهواتها وهم قلّة قليلة. لم تخرج الفلسفة في العالم العربي الى الحياة العامة ولم تسع الى مخاطبة القراء العاديين ولا الناس ولا الأفراد. بل إن مفكرين كثراً يرفضون الكلام عن فلسفة عربية معاصرة وفلاسفة عرب معاصرين.. ولا أحد يعلم لماذا لا يُسمّى فلاسفةً المفكّرون العرب المحدثون والمعاصرون الذين يستحقون هذا اللقب بجدارة تامة. يستحق هؤلاء فعلاً أن يحظوا بهذا اللقب مثلهم مثل الكثيرين في أوروبا وأميركا واليابان... إننا نؤثر دوماً أن نسمّيهم مفكّرين. صفة الفلسفة نتحاشاها قدر ما أمكننا. هذه صفة كأنها وجدت ل «الآخرين»، علماً أن مفكّرينا هؤلاء ما كانوا إلا ليسمّوا فلاسفة لو كانوا غربيين أو لو كتبوا بالأجنبية، بل ولعل بضعة من هؤلاء يُسمّون فلاسفة في فرنسا مثلاً. ما زلنا نحن العرب «غرباء» عن الفلسفة، مع أن الفلسفة كانت إحدى «مهن» أسلافنا، و «غربتنا» هذه تزداد كلّما تقدّم بنا العصر. فلو بحثنا عن قراء الفلسفة في العالم العربي اليوم لوجدناهم نخبة قليلة. هذا ما تشير إليه أرقام المبيع. الكتاب الفلسفي لم يعد رائجاً كما كان في السابق بل هو يشهد حالاً من «الاحتضار» شعبياً. قد تكون الكتب الفكرية، لا سيما الفكرية السياسية أشدّ جذباً واغواء. فالقراء العرب ما زالوا مشغوفين بالفكر السياسيّ وما يتصل به وما ينبثق عنه. وقد لا يُستغرب رواج الكتب التي تتناول القومية العربية والفكر العربي والقضايا العربية... والرواج هنا لا يوصف بالشعبي بل هو لا يتخطّى النخبة أيضاً. ويمكن في هذا المنحى استثناء المغرب العربيّ الذي ما طفقت الفلسفة فيه وكذلك الفكر، يشغلان الكتّاب والقراء على السواء. وقد تكون الكتب الفلسفية التي تصدر في المغرب الآن هي الأحدث عربياً والأكثر قرباً من حداثة الفلسفة الغربية وما بعدها. أعود الى مجلّة «لوبوان» الفرنسية والى الأسئلة التي حملها العدد وعنوانه «اختبر نفسك في الفلسفة» وأكتشف أنني عاجز عن الإجابة على الكثير من هذه الأسئلة أو «الحزازير». فهذا العدد الذي يُعدّ شعبياً في فرنسا يبدو نخبوياً لدينا، وليت بعض الدور أو المجلات العربية تصدر أعداداً مماثلة عن الفلسفة فندرك كم أننا نجهلها حقاً.