قبل أيام بث موقع قريب من المقاتلين المتشددين في منطقة القوقاز شريطي فيديو، ظهرت فيهما فتاتان تلت كل منهما وصية تم تسجيلها مباشرة قبل الانطلاق في رحلة الموت. انهما جنات عبد الرحمانوفا ومريم شاريبوفا مفجرتا مترو انفاق موسكو نهاية آذار (مارس) الماضي. لا تختلف الوصيتان كثيرا لجهة المضمون عن أشرطة مماثلة سجلها انتحاريون قبل إقدامهم على تنفيذ العمليات في مناطق مختلفة من العالم، فالحديث عن «لقاء الله» و «إرهاب الأعداء» و «الجنة الموعودة» وضرورة «المضي على الطريق ذاته» يتكرر عادة في «وصايا مماثلة». الجديد هنا يكمن في جملة تفاصيل إضافية صبغت بالخصوصية القوقازية منها أن هذه كانت المرة الأولى التي تترك فيها فتيات قوقازيات رسائل مسجلة قبل العملية الانتحارية، والاهم أن الفتاتين من داغستان التي ظهرت فيها للمرة الأولى انتحاريات فتيات بعدما كانت هذه الظاهرة حكراً على الشيشان خلال سنوات طويلة، والنقطة الثالثة أن الفتاتين تحدثتا عن أوضاع «الجماعة» ومشكلاتها الداخلية ودعتا زميلاتهما الى نبذ الفرقة و «القيل والقال» لأن المعركة مع «العدو» أهم. وأخيراً ظهرت جنات ومريم في الشريطين في نقاب لا يظهر منهما شيئاً حتى ثارت شكوك حول ما إذا كانتا بالفعل الفتاتين اللتين هزتا روسيا وأعادتها المخاوف من احتمال الرجوع الى «حرب الانتحاريات» التي روعت البلاد قبل سنوات. لكن التفاصيل التي وردت في الوصيتين لم تترك مجالاً كبيراً للشك. بات واضحاً أن تفجيري المترو مرا بمراحل إعداد دقيقة ولم يكونا رد فعل على مقتل أحد زعماء المتشددين كما قالت الأجهزة المختصة في البداية. وهذا يعني أن روسيا ربما تكون على موعد جديد مع عودة ظاهرة «الأرامل السود» لتكون جزءاً من معادلة الصراع في منطقة القوقاز خصوصاً أن المعطيات المتوافرة لدى الأجهزة الروسية أشارت الى تمكن المقاتلين من تجهيز عشرات الانتحاريات الجديدات. ومع عودة الظاهرة عادت أسئلة ترددت كثيراً في السنوات الماضية: ما سر ظهور «الأرامل السود» في منطقة القوقاز؟ كيف يمكن تفسير هذه الحالة ومن يقف وراء إعداد الانتحاريات، أو بالأصح كيف تتم العملية التي بات يطلق عليها: صناعة الموت؟ في الطريق الى داغستان كانت الأسئلة التي تشغل البال بالدرجة الأولى ابسط من الأسئلة السابقة. في هذه الجمهورية لا توجد مظاهر حربية واضحة للعيان، لا نقاط تفتيش، ولا انتشار عسكري، لا دبابات على تقاطع الطرق ولا ثكنات على مداخل العاصمة محاطة بالمتاريس. تبدو الحياة طبيعية جداً في المنطقة على رغم أن نشرات الأخبار تنقل يومياً أنباء تفجير هنا أو هجوم هناك. وكل المعطيات تشير الى أن وراء الهجمات عدداً محدوداً من المتشددين المتحصنين في غابات كثيفة وجبال وعرة لا تصلها الإمدادات العسكرية. السؤال إذاً: لماذا تم اختيار داغستان تحديداً ليأتي التصعيد منها؟ ولماذا في هذا التوقيت بعد مرور شهور على إعلان وقف العمليات الحربية في القوقاز، وهل يسعى البعض الى إقحام الجمهورية في مواجهة دموية؟ وأخيراً كيف ظهرت انتحاريات فجأة في داغستان؟ يبدو السؤال عن سبب اختيار داغستان في هذا التوقيت لتفجير حرب «الانتحاريات» الجديدة من دون جواب واضح حتى عند النخبة الحاكمة في هذه الجمهورية، لكن الأكيد أن التطور صعد من المخاوف الى حد كبير حتى أن أحد كبار المسؤولين المحليين قال ل «الحياة»: يبدو أن هناك من «حجز داغستان» وهذا تعبير روسي دارج للإشارة الى ضحية مقبلة. ولا يخفي كثيرون في محج قلعة تشاؤمهم، باعتبار أن التطورات الأخيرة ربما تكون مقدمة لتدهور خطر في الجمهورية ذات التركيبة السكانية والاثنية المعقدة وهو ما يفسر عبارة أحد الوزراء عندما حذر من «اللعب على التناقضات الداخلية ومحاولة استخدامها لزج داغستان في الحرب مباشرة». ومعلوم أن هذه الجمهورية الصغيرة التي لا يزيد عدد السكان فيها على مليونين ونصف المليون نسمة تضم خليطاً عرقياً ثرياً من قرابة أربعين قومية لكل منها لغتها وعاداتها وتقاليدها و... طموحاتها السياسية، ما يجعل «تسخين الأحداث» فيها أقرب الى اللعب بالنار كما قال أحد الخبراء. أيضاً ثمة مواجهة خفية بدأت تشتد خلال الفترة الأخيرة بين منهج الطرق الصوفية التي تحظى بنفوذ طاغ في الجمهورية منذ مئات السنين، والمنهج السلفي الذي بدأ وضعه يتعزز خلال الفترة الأخيرة لأسباب كثيرة بينها تأثير السلفيين في الجمهوريات المحيطة وعودة كثير من الدراسين لعلوم الشريعة في المنطقة العربية ونشاط حركة الترجمة لأدبيات سلفية عربية على رغم التضييق من جانب السلطات على انتشار هذه الأدبيات. هذه التفاصيل تبدو مهمة لفهم خلفية المشهد ومخاطر صعود ظاهرة العمل الانتحاري في الجمهورية. تبدو النظرة الى الانتحاريات في داغستان متناقضة بقوة والموقف من هذا الأسلوب فيه تباين كبير. فكثير من الداغستانيين الذين تحدثت إليهم «الحياة» أعربوا عن استياء بالغ، في حين أن بعض من أبدى «تفهماً» حصره في تفاقم الظروف و «حشر المقاتلين في زاوية تبدو فرص العودة الى الحياة الطبيعية فيها معدومة» أي بعبارة أخرى «لم يعد لدى المتشددين خيار سوى مواصلة المعركة والتصعيد» كما يشير المتحدث. ويضع خبراء أربعة عناصر أساسية للإجابة على سؤال: من يقف وراء الهجمات الانتحارية؟ وهذا السؤال لا ينحصر بداغستان وحدها بل يتعرض لظاهرة الانتحاريات في منطقة القوقاز عموماً. الفرضية الأكثر تردداً لدى الجهات الرسمية هي وجود «جهات أجنبية تقوم بتمويل العمل الانتحاري ويعمل معها مدربون غالباً من جنسيات عربية يقومون بعملية منظمة لغسل دماغ الانتحارية المفترضة وتوجيهها الى هذا الطريق. الثانية لا تختلف كثيراً لجهة وجود طرف محرض لكن الجديد فيها هو أن الانتحارية لا تقوم بعملية انتقامية بل تسعى الى الحصول على مكافأة مجزية تحصل عليها عائلتها أو ربما أطفالها بعد موتها، وهذه فرضية تربط العمل الانتحاري بالأوضاع المعيشية الصعبة في منطقة القوقاز خصوصاً بعد سنوات الحرب، وأيضاً بفقدان كثير من الأسر معيلها ما يضيق الخيارات أمام الأرملة. الفرضية الثالثة الأوسع انتشاراً هي الرغبة في الانتقام، وقالت ل «الحياة» جلنارا احمدوفا وهي ناشطة في مركز حقوقي إن كثيرات تم اعتقالهن وتعرضن لأشكال مختلفة من التعذيب وأحياناً الاغتصاب، وتشير معطياتها الى أن غالبية قريبات المقاتلين وضعن داخل دائرة الشك والملاحقة من جانب الأجهزة الخاصة، وكثيرات منهن يلجأن الى «محو العار»، أو لمجرد الانتقام لمقتل أحد الأقارب. ومعلوم أن عادة الثأر منتشرة بقوة في منطقة القوقاز. وهذه الفرضية تحديداً هي التي صبغت عمليات الانتحار التي نفذتها فتيات في القوقاز، ولهذا السبب تم اطلاق تسمية «الأرامل السود» على الانتحاريات. وفي الهجوم الأخير مثلاً ترددت معطيات عن أن جنات إحدى الانتحاريتين اعتقلت بعد مقتل زوجها في عملية عسكرية وتعرضت لتحقيق قاس، و «تم التعامل معها في شكل مهين جداً» كما قال ناشط حقوقي، ثم... اختفت فور الإفراج عنها لشهور عدة، لتظهر جثة هامدة بعد تفجير مترو موسكو. أما الفرضية الأخيرة التي يهمس بها البعض في منطقة القوقاز فهي تربط تصاعد العمل الانتحاري بين الحين والآخر ب «غطاء تقدمه الأجهزة الخاصة» المعنية باستمرار حال التوتر وتوظيف العمليات الحربية لأغراض عدة. ومع تفاوت المواقف حول تقديم فرضية على أخرى في فترات مختلفة لتفسير تصاعد العمليات الانتحارية يبقى أن الخبراء أجمعوا على أن التعامل مع الانتحارية أصعب بكثير من التعامل مع الانتحاري» وهي غالباً ما تكون «أخطر» من الرجل خصوصاً أن التجربة دلت إلى عدم تراجع أي انتحارية عن تنفيذ العملية ما يعني أن مستوى التصميم والإصرار على المضي الى النهاية يكون غالباً أعلى عند المرأة التي «تذهب الى الموت عن وعي بما هي مقدمة عليه». يذكر أن المرة الوحيدة التي اعتقلت فيها السلطات الروسية انتحارية قبل تفجير حزامها كانت بسبب عطل فني في جهاز التفجير، وأدى اعتقال الشابة الشيشانية في حينها الى حصول الأجهزة الخاصة على معلومات ثمينة حول كيفية تجهيز الانتحاريات في القوقاز. كيف يتم إعداد الانتحاريات! لا بد أن جمع تفاصيل عن وسائل إعداد الانتحاريات ووضعهن على هذا الطريق مهمة معقدة ونادراً ما يجد الباحث عن جواب للسؤال من يرغب في الإسهاب في الحديث عن هذا الموضوع. ولهذا ما يفسره، فالغوص في تفاصيل هذا الملف ربما يعرض الشخص لملاحقة أو يضعه في دائرة الشبهات. وغالباً ما جاءت أجوبة من تحدثت معهم «الحياة» حول هذا الموضوع مليئة بالعموميات، ومثال على ذلك الحديث مع رسول محمدوف والد الانتحارية مريم شاريبوفا الذي رفض فكرة أن تكون مريم مرت بمراحل إعداد وأكد أنها لم تغادر منزلها إلا قبل يوم واحد من تنفيذ العملية، وأكثر من ذلك فهو شدد على أن مريم لم تكن اصلاً تحمل أفكار تطرف و«لا أصدق انها نفذت هذا العمل». وعلى رغم ذلك تعرف رسول الى صورة مريم التي وزعتها الأجهزة الأمنية بعد التفجير وقام بنفسه بإبلاغ السلطات أن تلك الفتاة ابنته. الفكرة ذاتها أكدتها جلنارا صديقة مريم التي قالت ل «الحياة» إن «الانتحارية» لم تكن الفتاة التي يمكن أن تقتل نفسها، «كانت محبة للحياة بقوة، وتنفق وقتاً طويلاً على التجمل واستخدام الماكياج (...) كيف نصدق أن فتاة ترعى أنوثتها بهذا الشكل تتحول فجأة الى انتحارية؟». ليونيد كيتايف الذي ألف كتاباً أخيراً، عن «سيكولوجية الحرب في القوقاز» يشير الى إعداد الانتحاريات يتم داخل معسكرات خاصة بالاستفادة من بيئة غنية توفر الاستعداد للانتقام. ويقول كثيرون إن انتحاريات المستقبل يتعرضن لعملية غسل دماغ كاملة تستخدم فيها في بعض الحالات مواد مخدرة، وإن خبراء متخصصين يتولون إعدادهن لتقبل فكرة الموت، التي هي ليست غريبة اصلاً عنهن بسبب فقدان أقارب عزيزين. ولاحظ كيتايف أن غالبية الهجمات الانتحارية التي شاركت فيها «أرامل سود» كان المرافق لتنفيذ المرحلة الأخيرة من الهجوم سيدة متقدمة نسبياً في السن، وفي حالات معينة كان المرافق رجلاً تبين احياناً انه زوج الانتحارية. وبحسب الخبير فإن السيدة مهمتها الأساسية مرافقة الفتاة في كل مراحل الإعداد وحتى لحظة الضغط على زر التفجير، وهي تتحول الى الشخص الوحيد المؤثر على الانتحارية باستخدام كل عناصر التأثير المتوافرة نفسياً أو تفاصيل معينة وأحداث مرت بها الانتحارية لتعزيز تصميمها على المضي الى النهاية. من الصعب جداً أن يتخيل المرء الحال النفسية للانتحارية المتجهة في رحلتها الأخيرة، لكن أحد الخبراء تحدث في دراسة خاصة عن ما وصفه بأنه «وضع ما قبل الموت» وهي حال تسيطر على تفكير المتجه لتنفيذ عملية انتحارية وفيها أنه يصل الى قناعة بأنها «أتمت مهتمها ولم يعد ما يربطها بالحياة» وأن «أمامها طريقاً واحداً هو الانتقام الذي ستأتي بعده الحرية» ولفت الخبير الى ما سماها «حال القوة والسيطرة التي تسود وتشعر معها الانتحارية بأنها قادرة على التحكم بمصائر الآخرين. ولتوضيح هذه الفكرة نقل شهود كانوا في عربة القطار التي فجرتها مريم أن وجهها كان جامداً جداً، وكانت تنظر في اتجاه واحد وعيونها جامدة تماماً وكأنها ميتة». وفي واحدة فقط من الحالات عادت الانتحارية من طريق الموت، وكانت تلك نقلة مهمة في عمل أجهزة الاستخبارات فهي تمكنت للمرة الأولى من التحقيق مع انتحارية مرت بكل مراحل الإعداد وفشلت عند اللحظة الحاسمة في تفجير حزامها الناسف. انها الشيشانية زاريما موجيخويفا التي تقضي حالياً، حكماً بالسجن المؤبد. في عام 2003 كانت في طريقها الى الموت مع اثنتين من «الأرامل السود»، وكان الهدف هجوماً ثلاثياً يروع موسكو، وفي حين تمكنت زميلتاها من تفجير حزاميهما في حفلة راقصة كانت مقامة في أحد الملاعب الكبرى، لم تنجح هي في تنفيذ الخطة، التي كانت مقررة. كان المفروض أن تفجر حزامها في مقهى يقع على بعد مئات الأمتار من الكرملين، وقالت بعد ذلك انها ضغطت على زر التفجير عشرات المرات ولم يحدث شيء، ما أفقدها أعصابها وبدأت بالصراخ: «سأفجر نفسي... أحمل حزاماً ناسفاً». واللافت أن الحضور في المقهى لم يولها في البداية اهتماماً وظن البعض انها مجنونة، لكن أحد الحراس أمسكها واستدعى الشرطة بعد مرور أكثر من 15 دقيقة على حال الاضطراب والصراخ. قالت زاريما للصحافيين أثناء مثولها أمام المحكمة: ابلغوني لي إنني لن أشعر بأي ألم، وسيكون الأمر مثل غزة دبوس صغير، بعد ذلك سوف أنتقل مباشرة الى العالم الآخر، وهناك الجنة تنتظرني. وأوضحت جانباً من مراحل الإعداد النفسي التي مرت بها: حدثوني كثيراً عن رائحة الجنة حتى صرت أشعر بها قريبة، رائحة لا مثيل لها على الأرض. وقالوا إن ملاكين سيستقبلانني وسيسألانني: ماذا فعلت على الأرض؟ لم تفعلي شيئاً؟ فأجيب: كيف لم أفعل شيئاً لقد مت في سبيل الله. وتوضح زاريما في إفاداتها أن المسؤولين عن إعدادها أكدوا لها أنها ستكون قادرة على زيارة ابنتها «كل يوم خميس إذا واصل أهلي الدعاء لي بعد الموت». وأضافت: قالوا سوف أكون قادرة على رؤية روشانا (ابنتها). كانت هذه أول نقطة هزت قناعتي بما يقولون، شعرت انهم يدركون تماماً نقطة ضعفي ويستخدمونها. الشهادة السابقة توضح جانباً نادراً من مراحل الإعداد التي تمر بها الانتحاريات، وقالت جهات متابعة لهذا الملف في داغستان إن «المشكلة ليست في العثور على متطوعات فهن كثيرات وبينهن أوروبيات وروسيات اعتنقن الإسلام بعد الزواج في الغالب وهؤلاء عملة نادرة ومهمة لأن الجزء الأعظم من النجاح يعتمد عليهن بالتحديد كونهن أبعد عن عيون التفتيش والملاحقة». من يتولى إعداد الانتحاريات؟ يجمع الخبراء المتابعين لهذا الملف على أن إعداد الانتحاريات في منطقة القوقاز لا يخضع لمركز واحد، ما يعني أن التشكيلات المسلحة المتعددة في المنطقة وعلى رغم أن نشاطها في خطوطه العريضة يجري تحت توجيه موحد من جانب ما يعرف باسم «إمارة القوقاز» التي يقودها دوكو اوماروف، لكن إعداد العمليات وتحضيرها يجريان في شكل منفصل في كل جمهورية أو منطقة يتمركز فيها المقاتلون. وتعد الرسالة التي وجهها واحد من أبرز منظري حركة التمرد المتشددة سعيد بورياتسكي قبل مقتله بشهور دليلاً مهماً على تعدد مراكز إعداد الانتحاريين. فالرجل الذي كان يتهم بأنه العقل المدبر للعمل الانتحاري والمشرف المباشر على إعداد فرق الانتحاريات خصوصاً، أكد في رسالة سجلت على شريط فيديو وعرضها موقع قريب الى الانفصاليين أنه لم يتولَ تدريب الانتحاري الذي فجر حزامه الناسف محاولاً قتل الرئيس الشيشاني، وأنه اصلاً لم يكن يعرف بتدبير الحادث. وأشار مصدر كان قريب الصلة بسعيد بورياتسكي في حديث الى «الحياة» الى أن «من يعرف شخصيته يعلم انه لم يكن الشخص الذي يمكن أن يتراجع عن فعل ارتكبه، خصوصاً انه كان يدرك جيداً أن لا عودة له أبداً الى الحياة المدنية»، وتدل الرسالة الى أن أطرافاً أخرى دربت مجموعات من الانتحاريين في مراحل مختلفة. ومع ذلك ثمة إجماع على دور أساسي لعبه بورياتسكي في «إحياء ظاهرة الانتحاريات بعد سنوات على تراجعها» وقبل توضيح هذا الدور، لا بد من العودة الى بداية انتشار الظاهرة ذاتها في منطقة القوقاز. لا يختلف اثنان على أن منظمة «رياض الصالحين» التي أسسها في نهاية تسعينات القرن الماضي زعيم الحرب الشيشاني الأبرز شامل باسايف كانت المحرك الأساسي ومولد العمل الانتحاري في منطقة القوقاز وهي كانت وراء ظهور وانتشار ظاهرة «الأرامل السود». ومنذ تأسيسها وحتى مقتل باسايف حملت كل الهجمات الانتحارية توقيع المنظمة واعترف باسايف بمسؤوليته عن إعداد وتدريب الانتحاريات وإرسالهم الى المدن الروسية وكان الهدف دائماً بحسب بياناته «نقل المعركة الى العمق الروسي وإفهام الروس أن تكلفة عملياتهم العسكرية في القوقاز كبيرة جداً». وكان باسايف أطلق أول تهديد بإرسال «أفواج من الاستشهاديين» الى المدن الروسية في أيار (مايو) عام 2003، وبعد ذلك مباشرة نفذ وعيده وشهدت المدن الروسية سلسلة أعمال تفجيرية شاركت في غالبيتها انتحاريات نساء. وقال باسايف في إحدى التسجيلات الصوتية إن لديه طوابير من «المتطوعات للاستشهاد» هن زوجات وشقيقات وأمهات مقاتلين شيشان. وفي غضون عامين بعد ذلك قتل أكثر من 500 شخص في عمليات نفذتها انتحاريات في موسكو والشيشان وأقاليم أخرى جنوبروسيا. وبعد تمكن القوات الروسية من قتل باسايف في عام 2006 تراجع دور «رياض الصالحين» في شكل ملحوظ، وبدأت تظهر تشكيلات أخرى في الجمهوريات القوقازية تعلن مسؤوليتها عن تنفيذ هجمات انتحارية. وبعد مرور سنوات عدة أعلن «أمير القوقاز» دوكو اوماروف في حديث لصحيفة أميركية نشر في 25 نيسان (أبريل) من العام الماضي أن «أكبر انتصار حققناه هو نجاحنا في إعادة إحياء «رياض الصالحين» وبالتأكيد سنشن عمليات انتقامية واسعة داخل العمق الروسي». وتشير مصادر في داغستان الى أن سعيد بورياتسكي ذاته هو الذي تولى إقناع اوماروف بضرورة «العودة الى استخدام العمل الاستشهادي على نطاق واسع» باعتباره أكثر فعالية ويعوض عن النقص لدى المقاتلين في القدرة على شن عمليات عسكرية واسعة النطاق. اللافت انه بعد تصريح اوماروف بأسبوعين فجر انتحاري شريطاً ناسفاً كان يحمله أمام مبنى وزارة الداخلية في غروزني، وعدت تلك إشارة البدء لسلسة أعمال انتحارية روعت القوقاز، ودفعت الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف الى شن أوسع حملة عسكرية هدفت الى «القضاء نهائياً على ذيول المقاتلين المتحصنين في المناطق الجبلية». وطبيعي أن الحملة فشلت في تحقيق الهدف الذي فشل عن تحقيقه أيضاً الجيش الروسي بكل إمكاناته خلال عشر سنوات، فالأرقام المعلنة ما زالت تشير الى تواجد عدد غير محدد من المقاتلين في الغابات والجبال داخل كل من انغوشيا والشيشان وداغستان وربما في مناطق قوقازية أخرى. وفي مطلع العام الحالي أعلن حسين غاكايف أحد زعماء الحرب في القوقاز أن لديه «عشرين انتحارياً مستعدون للقيام بواجبهم». لكن الأكيد أن حادث تفجير المترو شكل نقلة لأنه أعاد نقل المشهد الدموي الى داخل المدن الروسية.