على رغم الهدوء العام وموسم اصطياف سياحي قياسي، يجهد النظام السياسي اللبناني لمواجهة عدد من الأزمات الكبرى ومنها: المناوشات مع قوات حفط السلام الدولية (يونيفيل) في الجنوب، تصاعد حرب البيانات مع إسرائيل حول استكشاف النفط والغاز، تجدد النقاش حول الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان، والقلق من أن التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري اقترب من تقديم خلاصاته. على رغم وقوع صدامات بين قوات ال «يونيفيل» وأهالي الشريط الحدودي في الماضي، إلا ان المواجهات بين الطرفين في حزيران (يونيو) وأوائل تموز (يوليو) كانت اكثر خطورة من ذي قبل وخلّفت وراءها عدداً من الجرحى من جنود ال «يونيفيل» والأهالي. وتقول ال «يونيفيل» إنها واجهت معارضة مدنية منظّمة خلال قيامها بمهامها العادية في مناطق انتشارها. لكن مصادر أخرى تتحدث عن أن دوريات ال «يونيفيل» لم تُنسّق على نحو مناسب مع الجيش اللبناني، وأنها كانت استعراضية واستفزازية على نحو غير ضروري. ومعروف أنه بات لل «يونيفيل» قائد جديد، وكذا الأمر بالنسبة إلى الوحدة الفرنسية. وبالتالي من المحتمل أن يكون القائدان الجديدان قد أساءا فهم الوضع المحلي وتجاوزا ما اعتاد عليه الأهالي مع القادة السابقين لهما. لقد تحرّكت قيادة الجيش اللبناني وال «يونيفيل» بسرعة لنزع فتيل التوتر. ومع ذلك كان تحرك الأهالي ذا طابع ملفت بحدته ووسعه، كما ان تصريحات بعض القادة المقربين من «حزب الله» صدرت بلهجة تهديدية ازاء ال «يونيفيل». ان «حزب الله»، من جهته، كان عموماً متأقلماً مع وجود ال «يونيفيل» في القطاع الجنوبي لأن هذا يساعده على تجنّب حرب جديدة مع إسرائيل. بيد أن الحزب يقارب دور القوات الدولية عملياً كقوة مراقبة، وهو قاوم محاولاتها في السابق لعرض عضلاتها أو القيام بعمليات تفتيش فعلية في مناطق عملها. والتوتر الجديد مع ال «يونيفيل» ربما يعكس ارادة إيرانية بالرد على الموجة الجديدة من العقوبات ضدها، وربما أيضاً كان يستهدف توجيه رسالة إلى الدول الأوروبية (فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا، التي لها أكبر الوحدات في ال «يونيفيل») بأنه يتعيّن عليها عدم إضافة عقوبات أوروبية إلى عقوبات الأممالمتحدة والولايات المتحدة. على أي حال، فاقم التوتر مع ال «يونيفيل» المخاوف من أن هذه الاخيرة قد تُصبح رهينة للأحداث الإقليمية، أو أن مهمة ال «يونيفيل» قد تبدأ بالتحلل. وإذا ما حدثت أية انسحابات لوحدات كبيرة من القوات الدولية وبدأت هذه بالتحلل بالفعل، فإن الهدوء الذي ساد الحدود الإسرائيلية - اللبنانية منذ عام 2006 سيتحلل بدوره، وقد ينزلق لبنان وإسرائيل بسرعة إلى هاوية الحرب. وبالتالي، يتعيّن على المسؤولين اللبنانيين والإقليميين والدوليين التحرّك بسرعة لاحتواء الأزمة والحفاظ على دور ال «يونيفيل» الذي كان ناجحاً حتى الآن. من جهة ثانية، أدى اكتشاف حقل الغاز الكبير قبالة شواطئ إسرائيل (حقل تامار الذي يتضمن احتياطياً يُقدّر بنحو 6.3 تريليون قدم مكعب) إلى قذف مسألة الطاقة إلى مقدم الاهتمامات السياسية والامنية. فهذا الحقل يمكنه أن يحوّل إسرائيل إلى دولة مستقلة في مجال الطاقة، كما قد يكون مؤشراً الى أن احتياطات النفط والغاز في قاع شرق البحر المتوسط أضخم بكثير مما كان يعتقد. ومعروف أن لبنان أبرم اتفاقات مع قبرص ومصر حول التنقيب على النفط قبالة الشواطئ، لكن بالطبع ليس لديه اتفاقية مماثلة مع إسرائيل، ولا الحدود البحرية مُحددة معها. وقد سارع المسؤولون اللبنانيون إلى تحذير إسرائيل من التنقيب قرب المياه البحرية اللبنانية، كما أصدر «حزب الله» تهديدات بأنه سيحمي حقوق لبنان البحرية إذا اقتضى الأمر. لقد سعت إسرائيل وقبرص قبل سنوات عدة إلى تنظيم استكشاف النفط والغاز قبالة شواطئهما. لكن الحكومة اللبنانية لم تدرك إلا حديثاً أن مثل هذه الموارد موجود بالفعل بكميات كبيرة وقد يساعد على تسديد ديون لبنان وتمويل نموه. وهي تحاول الآن إقرار قانون للنفط والغاز في البرلمان قد يُمهّد لقيام هيئة جديدة لإدارة التعاقد حول التنقيب والاستخراج، وأيضاً لتأسيس صندوق ثروة سيادية لبنانية لتلقي العائدات في حال بدأت بالتدفق. لكن، حتى لو سارت كل الأمور على ما يرام وبسلاسة، فإن عملية التعاقد والاستكشاف والاستخراج وتوليد العائدات ستستغرق سنوات عدة. وفي هذه الأثناء، تتم إضافة قضية موارد الطاقة البحرية إلى قضية مزارع شبعا وإلى قضايا خلافية أخرى كنقاط صراع بين لبنان وإسرائيل، ما سيفاقم التوتر في محور متوتر أصلاً. ومن مصلحة لبنان والاستقرار الإقليمي العثور على وسائل للتوسّط في شكل غير مباشر في النزاعات حول الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. في 15 حزيران (يونيو) الماضي، فجّر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط قنبلة سياسية، حين اقترح قانوناً لمنح اللاجئين الفلسطينيين حقوقاً اجتماعية واقتصادية لا شك في انهم استحقوها منذ أمد بعيد. وسرعان ما ادى هذا الاقتراح الى استقطاب في المشهد السياسي اللبناني وفق خطوط الحرب الأهلية القديمة. فالقادة المسيحيون في كل من تحالفي 14 و8 آذار عارضوه، والقادة المسلمون في كلا هذين المعسكرين أيدوه. وقد يكون هذا بالتحديد ما كان يستهدفه جنبلاط في سبيل إضعاف كلٍ من التحالفين السنّي - المسيحي والشيعي - المسيحي، ومن ثَمَ إعادة بناء أنظمة التحالف القديمة التي كان هو فيها (وقبله والده) عنصراً رئيساً في تحالف يشمل السنّة والشيعة والفلسطينيين في مواجهة تحالف مسيحي. مسودة القانون تمنح اللاجئين الفلسطينيين حق شراء مساكن في لبنان، وحق العمل، وحق تلقي الخدمات الاجتماعية والطبية، هذا علاوة على تلقي تعويض نهاية الخدمة من صندوق الضمان الاجتماعي. ويقول أنصار الاقتراح إن هذا الأمر ضرورة إنسانية ويخفف من الاحتقان الاجتماعي والأمني في المخيمات، فيما يقول المعارضون إنه يضع أعباء جديدة على الخزينة العامة الغارقة أصلاً في الديون، وإنه يتعيّن أن يسبقها نزع سلاح الفلسطينيين في لبنان وإخضاع المخيمات لسلطة الدولة اللبنانية كما ينادون منظمة غوث اللاجئين (الاونروا) الا تتنصل من دورها في تحمّل أعباء تأمين الخدمات للّاجئين الفلسطينيين. وينبهون الى أن هذه الإجراءات قد تكون مقدمة فعلية لتوطين الفلسطينيين في لبنان. مسودة القانون مطروحة الآن على طاولة اللجنة البرلمانية المختصة، ومن غير المحتمل أن تحظى بالموافقة في شكلها الراهن. هذا في حين يمكن صيغة معدّلة ومخففة أن ترى النور في خاتمة المطاف. كان توقيت الاقتراح مثيراً. فمن جهة، قد يكون مجرد محاولة من محاولات جنبلاط لخلط الاوراق السياسية في البلد، بيد أن من غير المحتمل أن يكون هذا الاقتراح قد طُرح من غير معرفة و/ أو موافقة سورية. ففيما يواصل المبعوثون الأميركيون السعي إلى إحياء محادثات السلام الإسرائيلية - الفلسطينية متجاهلين دمشق إلى حد بعيد، ربما شاءت سورية أن تذكر بأن نفوذها في لبنان قد يكون مفيداً لمعالجة مسألة اللاجئين الفلسطينيين المركزية. وعلى رغم ان سورية تعارض التوطين الكامل، في كل من لبنان وسورية لأن هذا سيؤثر في شكل كبير على التوازنات الطائفية والمذهبية في كلا البلدين، إلا أن منح اللاجئين حقوقاً اجتماعية واقتصادية في لبنان - كما الحال في سورية - هو أمر تستطيع سورية أن تضغط من اجله. لا شكّ في أن ردود الفعل الطائفية على الاقتراح الأخير تشير إلى أن لبنان لم يبتعد بعد عن خطاب الحرب الأهلية. ولا شكّ ايضاً في ان الفلسطينيين في حاجة ماسة لهذه الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. لكن يجب ان تعالج المسألة بطريقة لا تشعل حرباً أهلية جديدة في لبنان ولا تستخدم ذريعةً لحرمان الفلسطينيين من حقهم في العودة، بصرف النظر عما إذا كانوا سيمارسون هذا الحق في خاتمة المطاف أو سيتم التعويض عليهم. اما بالنسبة الى المحكمة الخاصة باغتيال الرئيس الحريري، وعلى رغم أن عمل المحقق الدولي دانييل بيلمار لا يزال محاطاً بالسريّة، فقد سرت تكهنات متزايدة في لبنان بأنه بات على قاب قوسين أو أدنى من رفع نتائج تحقيقاته إلى المحكمة. وإذا أشار تقريره بإصبع الاتهام إلى سورية أو «حزب الله» او كليها، فإن هذا سيؤدي إلى مضاعفات لا يمكن توقعها ولا السيطرة عليها. بالطبع، قد لا يكون التحقيق حاسماً، كما قد يتهم طرفاً ثالثاً، ومع ذلك فهذا لا ينفي أن شبح المحكمة عاد إلى لبنان. فقد حذّر مثلاً الوزير السابق وئام وهاب، المقرب من سورية و «حزب الله»، الحكومة اللبنانية من التعاون مع المحكمة، وهدد بأن قرارات المحكمة قد «تؤثر على يونيفيل وباقي مؤسسات الأممالمتحدة في لبنان». يشير تزاحم الأزمات في لبنان الى انه على رغم تفادي اندلاع الحرب حتى الآن، فلا يزال لبنان في غرفة العناية الفائقة وبحاجة الى متابعة اقليمية ودولية حثيثة، وقد تؤدي اي انتكاسة الى تدهور الوضع السياسي والامني وتصاعد احتمال مواجهات داخلية او اقليمية. * مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت