خلف غابات الأزمة العراقية الراهنة تعقيدات داخلية شتى يتعلق معظمها بتخوفات متبادلة تعصف بالأجواء بين قوى سياسية ذات مناشئ مذهبية، بعضها شيعي ديني وبعضها الآخر سنّي عربي قومي. في المجمل العام، تعرف القوى السياسية الشيعية، وفي مقدمها قوى التحالف الوطني، أن قائمة ائتلاف العراقية، ذات القاعدة السنّية على رغم الانتماء الشيعي العلماني لزعيمها الدكتور أياد علاوي، حصدت العدد الأكبر من المقاعد (91 مقعداً) في انتخابات 7 آذار (مارس) الماضي. لكن المشكلة أن تراكمات الخوف من الآخر، خصوصاً من عودته الى المفاصل الأساسية للحكم، كقيادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ومؤسسات النفط والثروة، لا تمنعها من الإقرار بهذه الحقيقة فحسب، بل تدفع بها الى رعب مضاعف. فالتسليم بفوز العراقية وحقها في تشكيل الحكومة المقبلة سيمهّد، في نظر الخائفين، الى عودة البعثيين والقوميين والمتشددين الى السلطة والقضاء على المكاسب التي حققها الشيعة في العراق خلال السنوات الثماني الماضية. في المقابل، تعصف بالقوى السياسية العربية السنّية، خصوصاً القائمة العراقية، مخاوف لا تقل في هولها عن تلك التي تقض مضجع قوى الطرف الآخر. فالجزء الأعظم من هذه القائمة يرى أن الائتلافات الشيعية التي خاضت الانتخابات بقائمتين متمايزتين، دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي، حصدت أكثر المقاعد البرلمانية (نحو 157 مقعداً). لكن المشكلة أنها تتجنب التسليم بأحقية التحالف القائم بين القائمتين الشيعيتين في تشكيل الحكومة لخشيتها المتفاقمة من أن يفضي ذلك الى بقاء مقاليد الحكم في يد التحالف الشيعي لأربع سنوات أخرى، ما يساعد في تحويل الدولة العراقية الى مذهبية شيعية بحتة وارتباط أوثق بإيران. صحيح أن كل طرف يخفي مخاوفه تحت يافطات من قبيل «الكتلة الأكبر» و «الاستحقاقات الانتخابية»، لكن الحقيقة أن التخوفات المتبادلة بين الطرفين مصدر أساس لتفاصيل الأزمة الراهنة. ما يزيد الطين بلّة أن هذا التفصيل لا يشي بكل أجزاء الصورة الراهنة في العراق. فتعقيدات المخاوف لم تعد محصورة بين بيتين فحسب، بل انتقلت ايضاً الى داخل البيت المذهبي الواحد. هنا، تصح الإشارة الى أن القائمة العراقية أصبحت تتوزع، من ناحية مخاوفها، بين دينيين يخشون أن ينتهي تشبثهم بحق تشكيل الحكومة الى وقوع الأخيرة في قبضة العلمانيين... وديموقراطيين يتخوفون من أن ينتهي الأمر الى عودة البعث المنحل بكل ما يعنيه ذلك من هيمنة استبدادية. أما أصحاب المشاريع الإقليمية في أوساط القائمة العراقية فمصدر مخاوفهم يتركز على فكرة مفادها أن الصراع الراهن قد ينتهي، على الضد من مصالحها، الى مكاسب لمصلحة مشاريع عربية معينة. لكل هذا، تبدو العراقية موحدة في ظاهرها، لكن الأكيد أنها تعاني اختلالات انقسامية. يصح القول نفسه بالنسبة الى التحالف الوطني الشيعي الذي يضم بدوره قوى فاعلة، بينها دولة القانون والمجلس الإسلامي والتيار الصدري وحزب الفضيلة. صحيح أن هذه القوى تشترك في التشديد على ضرورة منع العراقية من تشكيل الحكومة، لكن الواضح أنها تعيش خلافات عميقة يتعلق أكثرها بثقافة الخوف من الآخر حتى إذا كان هذا «الآخر» من سكان البيت. فدولة القانون تخشى فكرة طرح مرشحين آخرين لئلا يؤدي فوز أحدهما الى اجتماع السكاكين كلها ضد رقبة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي. هذا فيما يتخوف المجلس الأعلى من أن ينتهي القبول بترشيح المالكي كمرشح وحيد الى أن يستكمل الأخير ما كان بدأه في ولايته الأولى إبان 2006 – 2010 من تحجيم فظ لدور المجلس وفرض نفسه كقائد أوحد في الساحة الشيعية. أما التيار الصدري فخوفه أن يعود المالكي الى ايام عملية فرض القانون عام 2008 حينما أطلق أكبر عملية أمنية وعسكرية في البصرة للقضاء على جيش المهدي التابع للتيار. في كل الأحوال، تعوق الخلافات السياسية والتدخلات الإقليمية وعوامل الغموض في السياسة الأميركية توصل العراقيين الى قرار موحد في شأن تشكيل الحكومة المقبلة. لكن الأهم، بل الأكثر تأثيراً من هذا كله، هو ثقافة الخوف التي تتحكم بالذهن السياسي العراقي، إن على مستوى الطوائف أو على مستوى مكونات الطائفة الواحدة. وهذه الثقافة تمتلك في العراق جذوراً غائرة في الماضي. لكن الأكيد أنها بدأت تشهد انتعاشاً واتساعاً خطيرين مع سقوط النظام السابق في 2003. * كاتب عراقي.