عبر الشمَّاس ثاونا وصاحبه بدير، تستعيد سلوى بكر في روايتها «البشموري»، تيمة الرحلة، ثم تعود إليها عبر بطلها المركزي أمانيوس وارتحاله القلق في روايتها الجديدة «شوق المستهام» (مركز الأهرام للنشر- القاهرة). مصحوباً بوصايا الراهب مانتينوس حول الصفح والمغفرة للمخالفين، يخرج أمانيوس من البيعة متجهاً صوب أمه في بلدته البعيدة قربيط، حيث السفر اليها يتطلّب بضعة أيام مسكونة بالشجن والأسى الرهيف. توظف الكاتبة تقنية الاسترجاع حين يتذكر أمانيوس خالته التي تزوجت رجلاً عربياً من قبيلة «جذام» التي كانت تحطّ في أراضي أهله وتتعايش معهم، ثم تركت الخالة كل شيء، وظلَّت أختها - والدة أمانيوس- في حزن مقيم حتى لحظة مرضها المرتبطة بخط القص الرئيسي في الرواية. وعبر استدعاء ما كان، يخرج النص من حيز التاريخي/ التسجيلي إلى حيز الجمالي/ التخييلي، فتبتعد الكاتبة عن المرويات التاريخية وتتجه إلى الحكايات الإنسانية، عبر إشارتها الدالة أيضاً إلى لقاء أمانيوس بالمراكبي الذي يقله في النهر إلى بلدته، وعلاجه ضرسه الذي أصابه خُرَّاج دام. وفي الرحلة المدهشة ثمة بلدات كثيرة يصيبها الوباء، بثور تترك في الوجه أثراً لا يمحى لم تعد تجدي معها العلاجات التقليدية، بينما يكتفي أمانيوس بالتعاويذ الدينية، ويجد نفسه عاجزاً أمام تَغوّل مرض لم يعرفه، على رغم علمه بالطب ودراسته في البيعة. لكنّ التحول الدرامي يحدث بوفاة أمه التي يدركها عبر مؤشرات العالم الذي يحيط بمنزله، والذي تتحول الشارة البنفسجية الموضوعة عليه إلى أيقونة دالة على وقوع الموت: «ما إن اقتربت من بوابة بيتنا الخشبية الضخمة ذات الضلفتين المزينتين عند أعلاهما بملاكين حارسين تدلت من أيديهما عناقيد الكروم، حتى أدركت أن أمي قد ماتت وووريت التراب، إذ كانت شارة الحزن البنفسجية قد انعقدت على هيئة طوق من الزهور...» (ص 20). تتجلى ملامح المأساة أمام أمانيوس عبر أخته تكلا التي أكل الوباء عينيها، ولم تعد ترى إلا قليلاً. ويبدو التوظيف الدال لمدرسة الطب المصرية بتجلياتها المختلفة في منف والإسكندرية وأون وغيرها حاضراً وبقوة في الرواية، تكتبه سلوى بكر بنعومة شديدة ومن دون أن تقحمه على متن السرد، فيأتي عبر ثنايا الحكايات الفرعية في الرواية، من قبيل تلك الوصفة الطبية التي تحكي عنها تكلا، والتي تعلَّمتها من أمها، ويستعملها أمانيوس أيضاً في علاج الناس. عبر خمسة أقسام مركزية يتشكل المتن السردي لرواية «شوق المستهام». فصول سردية تأخذ عناوين فرعية دالة: «إشارات الشوق/ عون/ الجسد قميص الروح «الحرانية»/ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى «منف»/ زودياك» دندرة»، وتشير كلّها إلى دوال تشي بما وراءها. فإشارات الشوق تحيل على جوهر الرواية وترتبط بالشخصية المركزية داخلها بالأساس؛ «أمانيوس» الذي تصحبه الإشارات أينما حلَّ، وبعد أن كان لا يدرك كنهها صار معنياً بها كما أوصاه وعلَّمه الأب الورع مانتينوس. أما عون والحرانية ومنف ودندرة، فإنها تحيل على أمكنة مركزية في مدرستي الطب والفلك المصريتين، فضلاً عن إمكان التعاطي مع التاريخ المصري بوصفه حلقة واحدة ممتدة تحمل كل منها خصوصية حضارية في إطار الهوية المصرية بتراكماتها وطبقاتها الثقافية والمعرفية المختلفة. ومن ثم كان التناص القرآني في عنوان الفصل الرابع: «وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى/ منف»، حيث الجمع ما بين سياقين متنوعين (العربي والفرعوني)، يشكلان جزءاً من جدارية الهوية المصرية. فضلاً عن الجذر القبطي الحاضر عبر امتدادات الرواية كلها، التي تبدأ زمانياً منذ القرن الثامن الميلادي في إشارة دالة وعابرة في آن. ثم تتداخل مساحات الماضي والحاضر وتتقاطع في الرواية، فنرى عودة لما قبل الميلاد، وإشارات إلى معبد «أمحوتب»؛ إله الطب عند الفراعنة، وبردية «زويجا» الطبية المكتوبة باللسان القديم والمترجمة إلى اللغة القبطية أيضاً، والتي تبدأ الكاتبة من الإشارة إليها في الإهداء الذي يعد جزءاً مركزياً من بنية السرد الروائي، وإطاراً مرجعياً بوصفه ممثلاً لما يُعرف بخارج النص الممهد إلى جوهر النص وداخله ومراده: «إلى ذلك المجهول الذي ذهب إلى معبد أمحوتب في منف وزويجا... رغم كل شيء». ثمة رؤئ متعارضة للعالم تنهض عليها الرواية، تبرز عبر رؤيتين متجادلتين ومتصارعتين في آن. إحداهما يمثلها الأب سرابيوم، الذي يعبر عن طائفة من المتزمتين الذين يسمون كل من كان قبلهم بالكفر والهرطقة، وكل من يخالفهم ويخرج عن مقتضيات ما يعتقدون بالتجديف وضياع العقل والإيمان، ويتابعه ذلك آباء من الشيوخ الكبار، في مقابل رؤية نقيضة يمثلها أمانيوس، الذي يقرر الاستعانة بعلوم الأقدمين في مواجهة الأوبئة التي استشرت، شفاء للناس في بر مصر، ومثله في ذلك بعض من قابلهم على غرار القس الشاب الذي ساعده وهو مرتحل إلى منف. في كل قسم من أقسام الرواية يلوح ما يعرف بالبطل المساعد، والذي يكمل تيمة الارتحال القلق لأمانيوس. فتارة يكون أبانوب، المتسامح النبيل، وطوراً يكون بكلاز، الذي اختُطف ابنه ويأمل من أمانيوس بأن يساعده في العودة إليه. وأحياناً يكون العربي «ابن وحشية»، الذي يدعم أمانيوس في بحثه عن برديات الطب القديمة. ثمة عوالم من بشر وأمكنة وتوصيفات شفيفة تؤشر إلى عالم ممتد، ورحلة لا تنتهي، وتصل إلى ذروتها حين يجد أمانيوس بعضاً من لفائف البردي المدوَّن عليها بعض الوصفات الطبية، فيشتري ورقتين برُبع دينار. ثم يرتحل في النهاية إلى مدينة «دندرة» في جنوب مصر، منتظراً مزيداً من الكشف، ومشغولاً بالسؤال/ المأزق/ الوجودي: هل يعود إلى بيعته القديمة؟ أم يمكث ليتعلم أكثر في المعابد الفرعونية القديمة، وإن ظلَّت الإجابة محكومة بالرغبة العارمة في مساعدة كل المرضى الذين قابلهم منذ بداية الرحلة وحتى منتهاها. لا تتعاطى سلوى بكر مع التاريخ بوصفه تعبيراً مبتسراً عما كان، بل تتعامل معه بوصفه أداة ناجعة لفهم الحاضر، ورفده بقيم إنسانية خلَّاقة، فيصير التاريخ هنا أداة لاستعادة المعني، وكشفاً عن المسكوت عنه، وتأريخاً لكل أولئك المنسيين والمقموعين. ثمة علاقة جدلية بين الرواية والتاريخ، حيث يصبح (الإنسان) في كليهما محوراً يتمركز حوله طرفا العلاقة، فهو سؤال الأدب الأساسي، وهاجسه المركزي، ويمثل التاريخ- وفق فاطمة قدورة- «ذاكرة الجنس البشري» بل إن (الإنسان)- كما يرى صلاح صالح- «كائن تاريخي بطبيعته، ولا يستطيع أن يحيا، أو أن يستمر حياً من غير ذاكرة». وإذا كانت الأحداث ذات طابع تسلسلي في الخطاب التاريخي، متخذة من الصيغة الإخبارية التي تسجل الأحداث وتنقلها كما هي طابعاً لها، فإن الخطاب الروائي تخضع فيه الأحداث للمنطق الجمالي للنص، هذا الذي لا يعرف الوصفات الجاهزة، ولا يتقيد بالرؤى المعدة سلفاً، ومن ثم فالخطاب التاريخي يبدو ذا بعد رؤيوي أحادي، حيث ثمة زاوية نظر وحيدة تنقل الأحداث لنا (نظرة المؤرخ)، بينما النص الروائي الجيد هو ذلك الذي تتعدد بداخله زوايا النظر، ويتحقق من خلاله ذلك المنطق الديموقراطي للسرد. تتعامل الكاتبة سلوى بكر مع المرويات التاريخية المختلفة بوصفها مادة خاماً قابلة للتطويع والتشكيل، ومن ثم فهي تعيد توظيفها جمالياً بما يخدم المسار السردي لروايتها، وبما يتواءم أيضاً مع رؤيتها للعالم.