«هل نعاقب على اقتراعنا لعلاوي؟» تسأل المرأة بصوت متهدج لا يلبث أن ينفجر بكاءً، بينما تروي إحدى الأمهات على شاشة جهاز التلفزيون كيف دخل عليهم ليلاً رجال ملثمون ومسلحون اعتقلوا ابنها وضربوه حتى الموت. ويجمع الجيران والشهود الآخرون على تهمة وحدة من «القوات الخاصة» بالاعتداء. وأهل هذا الحي من الفلوجة، المعقل السني وميدان إحدى أعنف المعارك ضد الأميركيين، شأن أهالي المدينة ومحافظة الأنبار لا يفوتون مشاهدة التلفزيون وأخبار النشرات المسائية التي تحصي الفظائع اليومية، والمحطة المفضلة هنا هي «الشرقية»، المعارضة والدائبة على انتقاد رئيس الوزراء نوري المالكي. وغداة 3 أشهر على الانتخابات العامة، يسود الغموض المشاورات الوزارية. وحملت إيران الأحزاب الشيعية على التحالف، وقطع الطريق على أنصار العلمانية. وتجددت أعمال التفجير والهجمات الانتحارية في الأثناء. وطعنت الأحزاب في نتائج الانتخابات، وطعن بعضها في الأحكام التي ردت الطعون، الى ما لا نهاية، واجتمع البرلمان أخيراً ولكن اجتماعه لم يتمخض عن الحكومة المأمولة، ولا خطا خطوة على طريق ولادتها. ويفاقم انسحاب القوات الأميركية المقاتلة في آب (اغسطس) الوشيك قلق العراقيين الذين زعزعتهم 7 أعوام من الحرب المتصلة وأضعفتهم. «إذاً لم يعط اياد علاوي حقه المشروع في الحكومة الجديدة فلن نتردد في حمل السلاح مرة أخرى»، يقول أحمد (33 سنة)، أستاذ إدارة الأعمال في جامعة محافظة الأنبار. وأحمد من «أبناء العراق»، وعضو سابق في فرق الدفاع عن الأنبار، خريف 2004، وهو يؤيد اليوم من بارك، في 2004، هجوم الجنود الأميركيين على مدن المحافظة. ويجيب، حين يسأل عن انقلاب موقفه، بأن علاوي لم يكن في حيرة من أمره. ويؤيده أحمد، شأن كثيرين مثله من السنة، لأنه ينتهج سياسة تخالف تهميش السنة، وهو يمثل «أملنا في العودة الى السلطة». فأياد علاوي (63 سنة) هو السياسي الشيعي الوحيد الذي تجرأ على جمع القيادات السنية النافذة حوله، والتحالف معهم. وجزاه الناخبون السنة اقتراعهم للائحته. فحازت اللائحة المحل الأول بين اللوائح. «نحن نصفح عن علاوي، ونغفر له مهاجمتنا، فاليوم عدونا واحد، وهو إيران، وهذا يتقدم الاعتبارات الأخرى»، يقول المقاتل السابق في صفوف البعثيين. وهو يتهم من غير تردد الحكم الإيراني بتدبير التفجيرات الأخيرة في بغداد. ويقول: «لسنا أغبياء، فإيران حلت محل الولاياتالمتحدة، وهي اليوم شرطي الخليج برضا هذه، وهذا ما كان صدام تصدى له وحال دونه، ولكننا لن نرضى بالأمر». ويسود التذمر منطقة الأنبار، وأحد أخوة أحمد أبو ريشة، زعيم «مجالس الصحوة» وحليف الأميركيين لقاء الثمن المعلوم، اشترى اخيراً 20 سيارة دفع رباعي مجهزة بسلاح مضاد للطيران من إحدى قبائل الصحراء القريبة. وإحدى القرائن على تجدد التوتر الأهلي وانبعاثه ارتفاع سعر السلاح في السوق المحلية. ومن جهة ثانية، ماء الشفة لا تشرب غالباً. والكهرباء متقطعة، والمولدات في الأحياء تتكاثر يوماً بعد يوم. وعلى رغم تحسن الأمن تحسناً مشهوداً منذ جلاء القوات الأميركية عن الفلوجة، والرمادي عاصمتها، لا يتولى أحد جمع النفايات. فيضطر الأهالي الى حرقها. وحالهم وحال العاصمة واحد. ويلقي جاسم العسامي، رئيس بلدية الرمادي في 2006 - 2007- المسؤولية عن «المأساة» على عاتق الأميركيين. وحين يسأل عما قدمته القوات الأجنبية الى العراق في الأعوام السبعة المنصرمة، يجيب مع سواد السكان: «الدمار والاغتيالات وانتهاك حقوق الإنسان وجرائم لا تغتفر...». وفي النجف، المحافظة الشيعية الجنوبية التي تحظى فيها الاحزاب الدينية بنفوذ قوي، لم يعد مؤيدو أياد علاوي العلماني يتسترون على ولائهم له. ف «علاوي هو العلماني الوحيد الذي يقدر على اعادة بناء العراق»، على ما يقول عدنان البايع، ضابط سابق في نظام صدام حسين. وعلى خلاف معظم زملائه العسكريين السابقين، لم يغادر عدنان العراق، على رغم فرص العمل التي سنحت له، ولم يقع فريسة الكآبة. وهو يريد مساعدة عدد من قدامى البعثيين على بلوغ السلطة، متجاهلاً عملية اجتثاث البعث التي زرعت الشقاق في العراق، منذ بدأ العمل بها في 2003. ف «اجتثاث البعث اختراع اميركي يلحق الضرر بالعراقيين. فليدعونا نختار من يستطيع خدمة مصالحنا». ويتساءل: «لماذا يحظى من غادر المركب في العاصفة، وعاد في حقائب الاميركيين، باليد العليا على شؤون البلاد؟». ويرى الضابط السابق انه ضحية قوانين اجتثاث البعث. فلم يتسنَ له الانخراط في العمل السياسي، في الأعوام الاخيرة، على ما يشتهي. وهو يشارك في العملية السياسية من طريق «المعهد الثقافي»، المنظمة غير الحكومية التي أسسها في 2004. ويتلقى المعهد مساعدات أميركية، وينظم توزيعها على الأهالي. وهو يدعو الى تغيير الحكومة أولوياتها. ف «المالكي انصرف الى معالجة الوضع الامني، وأهمل الامور الباقية. واليوم، نحتاج الى توفير فرص عمل للناس، وارساء النظام». وعلى رغم انسحاب الدبابات الاميركية من بغداد، وتواريها عن المشهد البغدادي، تغرق المدينة في الخوف والفساد. وترى هناء ادوار، وهي ناشطة في حقل حقوق الانسان والمرأة، ورئيسة جمعية «الامل»، أن الاحزاب السياسية العراقية لم تتخفف من الذهنية المتسلطة التي كانت سائدة في عهد صدام. ف «السياسيون متمسكون بنموذج السلطة العمودي من الاعلى الى الادنى. والعراقي يرغب في الشعور أنه جزء من العالم الفعلي. وليتوقفوا عن ترديد الترهات نفسها»، على قولها. وتلقى هناء ادوار صعوبة في تقويم دور الاميركيين بالعراق. فتبدأ الكلام بالقول إن ما جلبه الاميركيون الى العراق هو «الفساد الهائل». وتُقر بعد لأي بأن الاميركيين «شقوا الطريق نحو الحريات المدنية. فالناس من قبل لم تعرف سُبل التعبير عن مطالبها وآرائها. ولم يعرف عامة الناس أن التعبير ممكن». ولكن العراقيين يحسبون، اليوم، أن الديموقراطية هي الانفلات من عقال القيود والضوابط، وصنع ما يريده الواحد على هواه. و «السياسيون العراقيون يرون أن النظام الديموقراطي هو وسيلة بلوغ السلطة»، على قولها. على هذا، تبرز الحاجة الى ال «نظام»، على ما تقول فاطمة، وهي مدرسة لغة فرنسية ولغة إنكليزية في عقدها السابع، متقاعدة ومقيمة ببغداد. ولا تخفي السيدة امتعاضها من «العائدين الى العراق حاملين جوازات بريطانية أو ايرانية». وهي لم تغادر حي المنصور المرموق، في ذروة الحرب الاهلية. وتروي أن سفارة الامارات العربية المتحدة أغلقت ثلاث طرق تفضي الى منزلها «لأسباب أمنية»». و «المرء يعجز عن تصديق ما يجري. فالفوضى سائدة كما لو كنا في القرون الوسطى». وتعاني ابنة اخيها المقيمة في المنزل المقابل مما تسميه «بطء دوران عجلة العراق». وتقول: «يفترض بي أن أكون مهندسة. ولكني لم احصّل التحصيل العلمي المناسب جراء الحرب. وأشعر أنني لم اكتسب شيئاً. وكفة الارتجال والافتقار الى المعايير راجحة. وبعد 35 عاماً من القمع، صرنا بدائيين. وفي الستينات كانت النساء يرتدين التنورات الجميلة، يترددن على صالات السينما. فكم كان عالم الأمس مختلفاً!». * مراسلة، عن «لوبوان» الفرنسية، 24/6/2010، اعداد وضاح شرارة ومنال نحاس