قيظ بيروت وسائر العواصم العربية الشديد يشكل حزاماً ضاغطاً على أجواء المنطقة. وفي لبنان تحديداً كان الكشف عن حلقة جديدة من حلقات التجسس الإسرائيلية مع اعتقال أحد المتعاملين مع «الموساد» على مدى خمسة عشر عاماً وهو يعمل في إحدى شركات الهاتف النقال «ألفا». وبين الحروب المختلفة التي تشنها إسرائيل ضد لبنان حرب الجاسوسية حيث يتكشف يوماً بعد يوم مدى الاختراق الإسرائيلي الخطير للأمن القومي اللبناني، لذا لم تعد تقتصر الحروب والمنازلات مع إسرائيل على المواجهات العسكرية التقليدية فحسب بل إن أنواعاً أخرى من الحروب لا تقل خطورة يمكن أن تعصف بالوطن الصغير . ومن المفارقات أنه بعد ساعات قليلة على اعتقال العميل أو المتعامل مع جهاز «الموساد» سارعت إسرائيل إلى الإعلان عن اكتشاف شبكة تجسس تعمل لمصلحة «حزب الله»! وبدا هذا الإعلان وكأنه من نوع جواسيس «غب الطلب» ومعاملة بالمثل! وفور شيوع نبأ اعتقال العميل لمصلحة إسرائيل ضجت مختلف الأوساط اللبنانية بتساؤلات من نوع: ما هي المعلومات التي يمكن أن يكون المعتقل قد زوّد بها إسرائيل، خاصة في مجال الاتصالات الهاتفية، والأكثر تحديداً المحمول منها؟ ومن هذه الردود ما عبرّ عنه زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عن خشيته من عودة لبنان إلى دوامة الاغتيالات التي شهدها خلال السنوات الماضية. كما انطلقت على الفور الدعوات لتعليق المشانق وإعدام كل من تثبت عمالته لإسرائيل، وأعلن الرئيس ميشال سليمان موافقته على توقيع أي حكم بالإعدام يصدر عن القضاء اللبناني. ويروي لنا أحد قضاة التحقيق الذي استجوب عملاء آخرين جندتهم إسرائيل لتزويدها بكل المعلومات عن تحركات بعض الوجوه البارزة سواء اللبنانية منها أو تحديداً الوجوه البارزة في «حزب الله»: أمضيت ساعات طويلة في استجواب بعضهم حتى انهاروا واعترفوا بكل شيء. وعندما سأله القاضي ما إذا كان لديه أي كلام قبل إحالته إلى النيابة العسكرية، أجاب العميل: نعم...إنني في حال من الذهول والدهشة. وسأل القاضي:...ولماذا؟ أجاب: لأن السلطات الإسرائيلية التي جندتني للعمل لمصلحتها أكدت لي أنه لن يكون باستطاعة السلطات اللبنانية اكتشاف أمري نظراً للأجهزة المعقدة التي زودت بها. ومن ردات الفعل اللافتة إعلان عدد من نواب «حزب الله» ان الكشف عن مثل هذه الشبكات التجسسية الإسرائيلية يبرر مرة أخرى ضرورة احتفاظ الحزب بسلاحه للدفاع عن نفسه وعن لبنان. إلى جانب ذلك يعايش لبنان هذه الأيام «حمى الفايسبوك»! ومشاعر الإثارة للبدء بإعداد الترتيبات القانونية والتقنية لاستخراج النفط والغاز من قعر المياه اللبنانية، ضمن ما يسمى بالحدود الاقتصادية، إضافة إلى مناطق أخرى في الجنوب والبقاع. وهذا موضوع قديم يتجدد طرحه هذه الأيام، خاصة مع إعلان الحكومة الإسرائيلية عن تلزيمها لإحدى الشركات لبدء التنقيب عن النفط وهي تنفي حق لبنان في ذلك وتهدد بمواجهة عسكرية للحفاظ على «الثروة النفطية» والتي لا تزال كالسمك في البحر. ويروي رئيس الجمهورية السابق اميل لحود ل «الحياة» أنه في عام 2003 بلغته معلومات عن قيام سفينة فرنسية بإجراء عمليات مسح في بعض المناطق البحرية المحاذية للشاطئ اللبناني، ولم يكن حينها يعلم عن تفاصيل ما يجري، فاستدعى السفير الفرنسي في حينه وسأله: ما الذي يجري؟ وكان جواب السفير: ان ما نقوم به هو بمعرفة رئيس الحكومة (الرئيس رفيق الحريري آنذاك). وطلب الرئيس لحود أن يأتيه قبطان السفينة التي تقوم بأعمال المسح البحري بحثاً عن النفط. وعندما دخل إلى قصر بعبدا، وإلى مكتب الرئيس، قال له الرئيس لحود: أنا مهندس بحري. أجبني بصراحة: هل يوجد نفط وغاز ضمن المنطقة البحرية التي كنت تجوب فيها المياه اللبنانية بسفينتك؟ ورد القبطان الفرنسي: نعم...ان الدراسات التي بحوزتنا تؤكد وجود «كميات وفيرة» من النفط. ومنذ عام 2003 طوي الملف ليعاد فتحه قبل أيام، وسط بشائر بقرب هبوط الثروة النفطية على لبنان وتسديد العجز العام الذي يشارف على الستين مليار دولار! هذا ما يتصل باكتشافات النفط والغاز، أما «حمى الفايسبوك» فهي مستوحاة من بعض التوقيفات التي أجرتها السلطات الأمنية بحق عدد من الشبان الذين وجهوا بعض الرسائل عبر «الفايسبوك» إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان تضمنت عبارات اعتبر القضاء اللبناني أنها تمس بشخص رئيس الجمهورية وتخرج عن نطاق توجيه النقد إلى ... الشتائم. وكعادة اللبنانيين تنقسم الآراء بين معارض لفكرة اعتقال هؤلاء الشبان وبين مؤيد. والمعارضون يذكرون أن لبنان يكفل حرية التعبير عن الرأي، فيما المؤيدون يعتبرون أن موقعي هذه الرسائل تطاولوا على رمز البلاد. وفي اللقاء الذي تم صباح الجمعة في القصر الجمهوري بين بعض أمهات الموقوفين ورئيس الجمهورية أوجز الرئيس سليمان موقفه بالقول إنه لا يعترض على توجيه الانتقاد إليه لكن «الشبان ذهبوا بعيداً في استخدام الشتائم وهو ما يمس كل لبنان». ويدور جدل قانوني حول ما إذا كان استخدام الانترنت يخضع لمحكمة المطبوعات، أم إن التشريعات القانونية لا تشير إلى آخر ابتكارات الثورة التكنولوجية. ويتذكر الرئيس اميل لحود أنه آل على نفسه طول فترة حكمه الرئاسي والذي تواصل على مدى تسع سنوات ألا يقيم أي دعوى على أي صحافي وألا يتم اعتقال أي صحافي مهما كتب. وفي العودة بالذاكرة إلى تلك الحقبة يذكر الجميع أن الرئيس أميل لحود تعرض لأبشع حملة إعلامية تناولته بالتجريح وحتى الطعن بدستورية تجديد ولايته. أما أمهات المعتقلين فيناشدن الرئيس سليمان عبر أجهزة الإعلام أن يعتبرهم كأولاده ...وأن يستوعب صرختهم وانتقاداتهم. ووسط كل هذه التطورات يستعد لبنان لاستقبال موسم سياحي «واعد» وهذا هو التعبير الذي يستخدمه وزير السياحة فادي عبود وسائر المسؤولين. ودعاء المواطن اللبناني العادي أن يمر فصل الصيف على خير. وألا تجنح إسرائيل نحو جنون جديد لتهديد الاستقرار والازدهار في لبنان، وهذا من أخطر أنواع الحروب والمواجهات التي يمكن أن تحدث. وفي المحصلة الأخيرة يتضح الآتي: أولا: ان اعتقال المتعامل الجديد مع إسرائيل شربل قزي يطرح تساؤلات عديدة وفي طليعتها: إلى أي مدى تمكن هذا المتعامل من تزويد إسرائيل بمضامين الاتصالات الهاتفية التي جرت ويمكن أن تجري بين عدد من الوجوه والشخصيات المعروفة؟ باعتبار أن المعتقل يعمل بصفة فني متخصص في الاتصالات عبر الهاتف الجوال في شركة «الفا»؟ ثانيا: طرحت أسئلة جدية حول وجود أي علاقة بين المعتقل والدور الذي قام به لمصلحة العدو الإسرائيلي وأعمال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. باعتبار أن مختلف الذين تعاقبوا على مسار هذا التحقيق استندوا إلى العديد من مضامين الاتصالات الهاتفية، خاصة أن تقرير المحكمة سيصدر – من حيث المبدأ- خلال الشهرين المقبلين؟ والكلام كثير حول ما يمكن أن يثيره مضمون هذا التقرير على الصعيد الداخلي اللبناني. وهناك بعض أجواء التعبئة التي تخيم على لبنان جراء هذا التطور إذا ما صدر هذا التقرير وأشار إلى جهة معينة بأنها تقف وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ثالثاً: إن الأحكام القضائية التي صدرت بحق من تم اعتقالهم من المتعاملين مع إسرائيل لم تكن رادعة، لذا تنطلق الصرخات في كافة أرجاء لبنان أن: علقوا المشانق للمتعاملين مع إسرائيل حتى ولو اعترض البعض طالبين الرأفة بالجواسيس على أساس «إنساني»! رابعاً: في ما يتعلق بالتحركات الآيلة إلى اتخاذ الإجراءات القانونية والتشريعية للتنقيب عن النفط في أرض وبحر لبنان، الأمل أن تشكل الثروة الموعود بها نعمة على الوطن وعلى أبنائه لا أن تُدخلهم في أنفاق النقمة. * كاتب وإعلامي لبناني [email protected]