كان من الدوافع الرئيسة التي رجّحت كفة جنوب إفريقيا على غيرها من المنافسين لتنظيم مونديال كرة القدم 2010 الإشادة بأكبر عملية تحوّل سلمي شهدها القرن العشرون، أي التحوّل من التمييز العنصري إلى المجتمع التعدّدي المتسع لمختلف الأعراق والألوان. ومع أن الجميع يدرك أن آثار العصر العنصري ما زالت جاثمة هناك، فقد تأكد بمناسبة المونديال أنها تظل محدودة، تحوّلت إلى شكل طبقي اجتماعي وانخرطت في أنماط المشاكل السائدة عالمياً: فهناك أغنياء من البيض ومن السود في البلد، وفقراء ومعدمون من السود لكن البيض ليسوا وحدهم المسؤولين عن أوضاعهم طالما أن الحكومات والإدارات الرئيسة والمؤسسات الاقتصادية الحكومية في يد السود. إذاً، نجح المونديال في تحقيق أحد أهدافه السياسية، لأن كرة القدم رياضة وسياسة في آن، ونجحت جنوب إفريقيا في إثبات أن لديها مشاكل، لكنها من صنف مشاكل بقية الدول، أي نموّ متعثر وليس تمييزاً وعنصرية. وما لم يكن متوقعاً أن تبرز قضية عنصرية بمناسبة المونديال، لكنها، الآن، لا تتعلق بجنوب افريقيا وإن تفجرت على أراضيها. كلا، إنها تتصل ببلد حقوق الإنسان والثورة التي أعلنت المساواة مبدأ من مبادئها ونشرته في العالم: فرنسا. لم ينتبه الكثير من المعلقين إلى أن الفضيحة التي أحاطت بفريق كرة القدم ذات خلفية عنصرية، أو أنها على الأقل تعبر عن قضية عرقية ما فتئت تتضخم إلى أن انفجرت بصورة مفاجئة بمناسبة المونديال، وفي البلد الذي شهد إطاحة التمييز العنصري، وكأنها قد بلغت هذه المرة مرحلة التدويل. لقد شهد فريق كرة القدم ما يشبه الانتفاضة ضد القيادة البيضاء التي تمثلها الفيدرالية والمدرب الوطني، قادها اللاعبون السود من نجوم الفريق. وفهمت الحكومة الفرنسية بسرعة أن عليها ألاّ تترك للمعارضة من أقصى اليمين فرصة استغلال الحدث، فأطلقت وزيرة الرياضة تصريحاً غير معهود وصفت فيه بعض هؤلاء اللاعبين بأنهم «قادة عصابات»، مستعملة كلمة تستخدم عادة لدى الفرنسيين للحديث عن عصابات المخدرات، وتوالت في وسائل الإعلام تعليقات قاسية من سياسيين ومفكرين يحسبون على اليمين، وكان للسيد آلان فنكلكروت كالعادة قصب السبق، فذهب بعيداً إلى حدّ استعمال عبارات واضحة العجرفة والعنصرية، ما دفع ببعض الجمعيات الحقوقية إلى الإعداد لمقاضاته. وفنكلكروت يصنف في خانة الفلاسفة الجدد، فلاسفة اليمين الذي آلوا على أنفسهم أن يمحوا آثار «أيديولوجيا أيار (مايو) 1968» بعدما حمّلوا تلك الأيديولوجيا مسؤولية كل مصائب البلد. وقد أصبح فنكلكروت في السنوات الأخيرة البديل الساركوزي عن رئيس اليمين المتطرف جان ماري لوبن: فهو يسعى مع كل أزمة إلى أن يتصدر المرتبة الأولى في التصريحات المثيرة والمستهجنة، منتزعاً هذا الدور من لوبن الذي تربع على عرش الإثارة أكثر من ربع قرن. وتصريحات لوبن أصبحت اليوم ضعيفة لا تلقى إلا اهتماماً محدوداً من الإعلام مقارنة بمنافسه الجديد. ولا شك في أن المستفيد هو ساركوزي الذي يغنم في آن واحد من فضيلة الصمت والكلام: فهو صامت لأنه، بهيبة الرئيس، لا يمكن أن يطلق التصريحات المثيرة، ومتكلم لأن الجميع يعلم أن فنكلكروت قريب منه، ممثل لخواطره واتجاهات تفكيره. والحقيقة أن مشكلة السود في فرنسا ما فتئت تتفاقم منذ سنوات وسط صمت مطبق تلتزمه الطبقة السياسية والإعلامية التي لا تريد أن تفتح ملفاً مؤلماً وشائكاً. ومنذ أن ظهر في الولاياتالمتحدة رئيس أسود بدأ سود فرنسا يشعرون بأن عليهم أن يشكلوا مجموعة عرقية تدافع عن مصالحها مثل العرب واليهود. ولئن لم تكن لهم شخصيات سياسية أو فكرية تعبر عن صوتهم أو جمعيات كبرى تمثل تطلعاتهم، فإن في الإمكان أن تعبر هذه المجموعة عن سخطها بواسطة نجوم الرياضة ومغنّي موسيقى «الراب» وبعض الفكاهيين. ويدعو هؤلاء الى أن يعترف المجتمع الفرنسي بجرائم فرنسا التاريخية بحقهم، وأهمها ما قام به نابليون بونابرت من نقل الملايين من أجدادهم من إفريقيا إلى المستعمرات الفرنسية في أميركا الجنوبية، وهم يجعلون بونابرت في وضع هتلر نفسه، ويعتبرون استغلالهم في المستعمرات وموت الملايين منهم بسبب ذلك جريمة ضد الإنسانية، من نوع المحرقة اليهودية. وقد حاولت الحكومة الفرنسية السابقة في عهد الرئيس جاك شيراك أن تقدم تنازلاً رمزياً مهماً تمثل في استصدار قرار من البرلمان يصنف تجارة الرقيق كجريمة ضد الإنسانية، لكن هذا القرار «عوّم» القضية، لأنه لم ينص على مسؤولية فرنسا تحديداً ولم يتضمن فكرة تقديم تعويضات للسود فيها. واستفزت مطالبات السود الجمعيات اليهودية التي لا ترضى بأن تنتشر المقارنات بين الضحايا السود في المستعمرات الفرنسية والمحرقة النازية، وأصبح وضع الفكاهي الأسود الأكثر شهرة في فرنسا المعروف بالاسم الفني «ديودونيه» قضية شائكة، إذ دين أكثر من مرة بتهمة معاداة السامية بسبب إصراره على مقارنة إبادة السود بإبادة اليهود وشططه في ذلك، إلا أن حفلاته تستقطب منذ سنوات أعداداً غفيرة من السود يعبرون بحضورهم المكثف عن تضامنهم معه. ولا شك في أن ليهودية فنكلكروت بعض أثر في تصريحاته العنيفة ضد نجوم كرة القدم الفرنسية. لكننا إذا وضعنا جانباً هذه التعبيرات المبالغ فيها من الطرفين لرأينا فعلاً أن فرنسا تعدّ من البلدان القليلة التي لم تكد تشهد حكوماتها وزراء سوداً عدا وكلاء وزارة الرياضة، ولا يوجد أسود على رأس أية مؤسسة إدارية أو اقتصادية ضخمة، ولا يكاد يوجد نواب سود في البرلمان عدا نواب المستعمرات الفرنسية. لذلك كان وصول أوباما إلى السلطة لحظة تغيير نوعية في طرق تعبير السود في فرنسا عن احتجاجهم لقلة إدماجهم في المجتمع وتواصل التمييز ضدهم، ويرى كثيرون أن ليس من المنطقي أن تقدم الحكومة على إقرار قوانين لإلزام المجتمع بتحقيق المساواة بين النساء والرجال وألا تقوم بمبادرة من النوع نفسه لتقريب الهوة التي تفصل السود عن البيض، مع أن القوانين المعروفة بالتمييز الإيجابي كانت قد أقرت في الولاياتالمتحدة لفائدة السود أولاً. لا يبدو من خلال الهجمة الشرسة والوقحة التي قادها مفكرو اليمين ورموزه السياسية أن أصحاب القرار مستعدون لفتح هذا الملف. فالجمهورية التي تعتبر أنها نشرت في العالم شعار الأخوة والمساواة، لا يمكن أن تعترف أمام نفسها وأمام العالم بأنها تعاني مشكلة عنصرية. فهل يتطلب الأمر تنظيم مونديال قادم في باريس كي نشهد حلّ أزمة بلغت مرحلة الانفجار؟