يعرف القرّاء العرب الكاتب الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتان تودوروف، بسبب شهرته في عالم الأدب، وانضمامه في السبعينات الى الحركة البنيوية وتأليفه عدداً من الكتب، وتعلّقه في ترجمة أعلام المدرسة الشكلانية الى الفرنسية، وتأليفه كتاباً عن ميخائيل باختين بعنوان «المبدأ الحواري». ولكن هؤلاء القرّاء لم يتعرّفوا بعد الى تودوروف الفيلسوف و «رسول النزعة الإنسانية» كما سمّته مجلّة «الإكسبرس» الفرنسية. فكتبه التي تنمّ عن هذه النزعة متعدّدة، لكنّها لم تترجم الى اللغة العربية ما عدا كتابه «الحياة المشتركة « الذي نقله الى العربية منذر عياشي ونشره حديثاً المركز الثقافي العربي في بيروت. يحاول تودوروف بعد انتقاله من عالم الأدب الى عالم الفكر كما يتبين في كتابه «الحياة المشتركة» أن يقف بوجه التصوّر السائد حول الحضارة باعتبارها تعايشاً صدامياً لمجموعة من الثقافات المستقلة («تحالف الثقافات»، وفق تعبير كلود ليفي ستروس)، منطلقاً من اقتناعه بأن ما يتخلّق داخل رحم التاريخ ليس مقصوراً على مصير الأجناس المكتفية بذاتها، وإنما يشمل مصير البشرية بأسرها، حالماً بمجتمع يمكن أن يسمح بتجاوز العلاقات العدوانية بين المرجعيات الثقافية المختلفة. ينطلق تودوروف في تصوّره من عرض ونقد للتيارات الكبرى في الفكر الفلسفي الأوروبي التي ترى أن واقعة العيش المشترك أمر غير ضروري للإنسان، ومعاشرة البشر الآخرين تعدّ حملاً يجب على المرء أن يحاول التخلّص منه، واستبدال الاكتفاء الذاتي به. ينقل تودوروف عن الفيلسوف الفرنسي مونتاني قوله: «فلتكن موافقتنا منوطة بنا، ولنتخلّص من كل ارتباطاتنا بالآخر، ونحمل على عاتقنا القدرة على العيش وحدنا بدراية وأن نعيش كما يحلو لنا». كما ينقل عن فيلسوف فرنسي آخر هو باسكال قوله: «نحن لا نكتفي بالحياة التي تقوم فينا وفي كائننا: نحن نريد أن نحيا في فكرة الآخرين». هذا التصوّر للنزعة عند الإنسان بين الوحدة والاجتماع، أو العزلة والاتصال، ما لبث أن تحوّل في النظرية السياسية، وفي علم النفس مع مكيافللي وهوبس الى تصوّر مفاده أن الإنسان كائن أناني محض، ونفعي، والبشر الآخرون ليسوا بالنسبة اليه سوى منافسين، أوعقبات في وجه تحقيق طموحاته، ولولا الخضوع لقيود قوية يفرضها المجتمع، لربما عاش الإنسان الذي هو من حيث الجوهر كائن متوحّد في حرب مستمرّة مع أقرانه، وفي مطاردة جامحة للسلطة. ليس ثمّة من مفرّ، على ما يقول تودوروف أن يسأل المرء نفسه على طريقة هوبس، لماذا يختار الإنسان الذي هو بطبيعته كائن وحداني وأناني العيش في مجتمع؟ أو يسأل على طريقة شوبنهاور من أين تأتي الحاجة عند الإنسان الى المجتمع؟ والجواب أن البشر يعيشون في المجتمع بدافع المصلحة. وهم يقومون بذلك لأنه لا يوجد بالنسبة إليهم شكل آخر لوجود ممكن غير هذا، ونجد عند كانط التصوّر نفسه، فهو يرى أن المولود الجديد يخرج من بطن امه وهو يصرخ خلافاً لكل الحيوانات الأخرى، لأنه يشعر بعجزه في استعمال أعضائه. لذا فهو يطالب فوراً بحريته، كما يرى كانط أن هوى الإنسان المركزي يتميّز بثلاث صيغ: العطش للشرف، والعطش للهيمنة، والعطش للثروة. أما نيتشه فلا يبتعد كثيراً عن فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر في تصوّره للإنسلن عندما يتحدّث عن إرادة القوة عند الإنسان الأسمى، وهو كائن يتطلّع بدوره الى العزلة والتوحّد. سيكون من الخطأ بلا ريب أن نقول ان هذه الرؤية اللااجتماعية للإنسان تختصر كل الرؤى الماثلة في تراث علم النفس في الغرب، إنها رؤية مهيمنة بحسب المفكر الفرنسي، ولكنها ليست الوحيدة، فالفلاسفة اليونان يعتقدون أن الإنسان حيوان اجتماعي، ويجب عليه أن يعيش بين أقرانه، وأن يزدهر في المدينة. ولأرسطو رأي في هذا المجال مؤدّاه أن الأنسان الذي لا يقوى أن يكون عضواً في مجتمع، أو الذي لا يجد الحاجة الى ذلك مطلقاً لا لأنه يكفي ذاته بذاته، فإنه لا يعد جزءاً من المدينة بأي شيء. يمكن القول إذا إن الحيوانات والآلهة هي وحدها المكتفية بذاتها، وبالتالي يمكن أن نتمثلها وحدها، أما الإنسان فهو كائن نافص وبحاجة للآخرين. استمرّ العمل بهذا التصوّر للإنسان ككائن متوحّد وأناني حتى القرن الثامن عشر إذ حدثت ثورة حقيقية بفعل كتابات جان جاك روسو الذي قدّم تصوراً جديداً للإنسان بصفته كائناً يحتاج الى الآخرين. يميّز روسو تمييزاً اصطلاحياً بين « حبّ الذات» و «احترام الذات»: المفهوم الأول إيجابي إنه يمثّل غريزة البقاء البسيطة، وهي غريزة ضرورية لكل كائن. أما المفهوم الثاني فهو سلبي: إنه شعور لا يوجد إلا في المجتمع، ويقضي بمقارنتنا بالآخرين، والحكم علينا بصفتنا أعلى منهم، والرغبة في جعلهم أدنى منّا. إن «احترام الذات» يعبّر بحسب روسو عن «فكرة التقدير» عند البشر منذ أن بدأوا العيش في مجتمع. فهم يكابدون الحاجة كي يجذبوا اليهم نظرة الآخرين «إننا نريد أن ينظر إلينا، ونبحث عن تقدير الجمهور، كما نحاول أن نستجلب اهتمام الآخرين الى مصيرنا». ان التجديد الذي جاء به روسو، لا يكمن في الملاحظة بأن الرغبة في المجد والحظوة، تجعل البشر ينفعلون، ولكنه يكمن في جعل هذه الرغبة عتبة نستطيع في ما بعدها فقط أن نتكلّم عن الإنسانية. هذا يعني تبعاً لروسو أن لدينا حاجة قاهرة للآخرين، ليس لكي نرضي غرورنا، ولكن لإننا ندين لهم بوجودنا نفسه، لأننا موسمون بالنقص الأصلي. يقول روسو في هذا المجال: «يعدّ كل تعلّق بالآخرين علامة على عدم الكفاية. فاذا لم تكن لأحدنا أي حاجة الى الآخرين، فلن يفكّر مطلقاً بالتوحّد معهم. ولكننا هكذا ولدنا في عدم الكفاية، ونموت في عدم الكفاية، ونحن فريسة حاجتنا الدائمة للآخرين، ونبحث باستمرار عن التتمة الناقصة، وحده الله يعرف السعادة في التوحّد». آدم سميث الفيلسوف البريطاني من جهته، لم يعارض طروحات روسو، واعتبره حليفاً في معركته ضدّ النظريات اللااجتماعية عند هوبس ولاروشفوكو. فقد ذهب كما ذهب روسو الى القول إن الأهواء الإنسانية التي تحمل بعضنا نحو بعض هي ضرورية للعيش في مجتمع أي للعيش الإنساني، ذلك أن القيم التي يعمل الناس بوحيها لا يمكن أن تولد إلا في مجتمع، فنحن لا نستطيع أن نصدر حكماً على أنفسنا من غير أن نخرج من ذاتنا، وأن ننظر الى ذاتنا من خلال عيون الآخرين. وهيغل الفيلسوف الألماني أيضاً لم يعارض آراء روسو وسميث، وإنما قدّم معالجة أخرى حول نزعتنا الاجتماعية في كتابه «فنومنولوجيا الروح» المكرسّة «لجدل السيّد والخادم أو العبد». هذه الأفكار حول الإنسان والتي تقوم على أنه أناني ومتوحّد، وهو لا يفكّر إلا بإشباع رغباته، وأن العيش في مجتمع هو الذي يعلّمه الغيرية والكرم، مهّدت لإفكار فرويد التي ترى أن النزوات الجنسية العميقة لا تخصّ إلا مصالح الذات. فقد كتب في مؤلّفه «قلق في الحضارة» قائلاً: «إنسان البشر ذئب» ويضيف: «من يملك الشجاعة من أساتذة الحياة والتاريخ أن ينكر هذه الحكمة؟». يتفحّص تودوروف في كتابه الذي تتجاور فيه الفلسفة مع علم النفس، ويترافق التحليل الأدبي مع التأويل الأنتربولوجي، تقاليد التفكير في الغرب حول مقولة أن الإنسان كائن اجتماعي، وأنّا لا وجود للأنا دون الأنت. وقد قاده تفحصّه هذا الى الاعتراف بأن الكائن البشري محكوم بالنقص، وأنه يتوق الى أن يعترف به الآخرون، وأن ذاته حتى وهي في العزلة، مصنوعة من العلاقات مع الآخرين. تودوروف على عكس الآخرين لا يعالج مكانة الإنسان في المجتمع، وإنما يعالج مكانة المجتمع في الإنسان، وبهذا التوجه يشقّ طريقاً جديداً في حقل المعرفة، تزيدنا إيماناً بإنسانية الإنسان.