على رغم فلسفة المقال العالية المتعمدة أو الاعتيادية في تناول موقف بعض الساسة والكتّاب والإعلاميين العرب من الهجوم الصهيوني على قافلة الحرية، إلا أن موضوع المقال أحزنني، إذ لم أعد أفهم المغزى الحقيقي من وراء المساعي الحثيثة لبعض كتابنا ومثقفينا لتسويق التطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني من خلال كتاباتهم ومقالاتهم التي تروج لهذا المشروع الفكري والثقافي ومناورات التلبيس والالتباس المقصودة، ومحاولات تغيير الثوابت استمراراً لمسلسل فقدان الهوية والضياع والتشرذم، من تلك الأمور اللقيطة التي لا أصل لها في ثقافتنا وتراثنا، والمستحدثة الدخيلة على إعلامنا وصحافتنا، محاولات التمييز بين اليهودية كديانة، والصهيونية كحركة عالمية، وتأصيل الفرق بين اليهود كأهل كتاب، والإسرائيليين كمواطنين، بل والإسهاب في تعميق وتبيين الفارق والتمايز بين الإسرائيليين أنفسهم، وتقسيمهم إلى مؤيد ومساند لأسطول الحرية، ومتطرف معارض يرى في ذلك هجمة إرهابية. هذا الظلم والتهجم والخلط المستبيح لحقوقنا من أجل تمييع وتبديل الحقائق وترسيخ الادعاءات والأباطيل، وهذه التوجهات المستوردة والأفكار العبثية المدسوسة تدعو للسخرية وتثير الامتعاض في الوقت ذاته من عمليات غسيل المخ وجراحات منابع الفكر والتلاعب بالعقول التي يمتهنها الكثيرون في الفترة الأخيرة، وتأخذنا من دون إرادتنا إلى عالم مشابه لها في المقاصد والاهتمامات، عالم لعبة كرة القدم، والأقاويل الزائفة التي يكثر المعلقون من ترديدها دائماً «بأن قرارات الحكم نهائية ولا يجوز الاعتراض عليها»، في الوقت الذي يكون هذا الحكم مرتشياً أو قليل الخبرة أو ضعيف الشخصية أو متحيزاً مع فريق ضد فريق آخر، ما يؤدي في النهاية إلى وقوع التزوير وإهداء الفوز إلى غير مستحقيه في حين أنه كان بإمكان الحكم الرجوع إلى معاونيه أو مراجعة جهاز البث والوقوف على الصواب والحق. كما أن عدوى التنزيه والتخليط كذلك انتقلت إلى ساحة أخرى أشد خطورة، ساحة القضاء ورجاله، حيث النغمة المزعجة التي يحلو للبعض تكرارها من دون فهم لمحتواها ومعناها، من التأكيدات غير المنقطعة على أن أحكام القضاء نهائية ويجب عدم التعقيب عليها، وهذا الكلام خطر جداً لأسباب عدة أوجز بعضها من أجل محو الغموض والتدليس. أولاً: هذه القوانين التي يتم التقاضي بناء عليها في دول عربية كثيرة، هي في الأصل صناعة بشرية في معظمها، يمكن اختراقها بسهولة، كما أن من صاغها لم يراعِ المصلحة العامة بقدر ما قاسها على مصالح حزبه أو حكومته، فتنتصر الأحكام غالباً لفريق بعينه مهما كانت الحجج والبراهين القولية التي لا يعترف بها القاضي، على رغم صدقها في أحيان كثيرة. ثانياً: القضاة هم بشر مثلنا ليسوا معصومين، لذلك لا ينبغي تقديسهم ووصفهم بالكمال والمثالية. ثالثاً: من القضاة من أصدر أحكاماً ببراءة متهمين بالقتل الجماعي في قطار أو عبارة مثلاً، ومنهم من أوصل البعض إلى حبل المشنقة، والعجب العجاب أن يُجرَّم البريئون ويُبرَّأ المحكومون بالإعدام في ما بعد. أعود إلى سبب انزعاجي من المحاولات اليائسة للدفاع عن اليهود والصهاينة، والتمادي في إظهارهم بالصورة المسالمة التي لا تقتل ولا تذبح ولا تجرح، وتطهيرهم وتنقيتهم من الأوصاف القرآنية على مدار 14 قرناً من الزمان، باعتبار أنها ربما تكون قد نزلت في أنواع أخرى غيرهم، وأسأل هؤلاء المثقفين والتنويريين من بني جلدتنا عدداً من الأسئلة ولا أريد إجابة عنها: بما أن حُكم القاضي في المحكمة، وحَكم المباراة في الملعب لا يجوز التعقيب عليه، فلماذا نتطاول ونعقب على حكم الله؟ (واللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ). ثم أعيدوا قراءة هذه الآية في وصف اليهود ومواقفهم العدائية للإسلام (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) وأجيبوا بأنفسكم، وهل لديكم تعقيب على ذلك الحكم؟ يكفي ما قدمناه من قرابين الحب والعشق والهيام باليهود على مدى 60 عاماً، لم نجنِ منها سوى التشتت والفرقة والانقسام، اليهود والصهاينة والإسرائيليون، أسماء متعددة والأصل واحد، ولن يرضى هؤلاء قبل أن يروا الهلال من فوق القباب قد تحول إلى صليب ومثلثات متنافرة، ولن يقبلوا عمليات تحويل وتجميل – إن جاز القول - للإمام والخطيب والواعظ إلى قس وراهب وحاخام. أخيراً، لقد انتصرت الحرية والإرادة الأبية على رغم ما لاقته من قمع وغطرسة وجبروت، وباتت أقوالنا التحايلية تفضح مواقفنا الفعلية. [email protected]