يذهب اندريه شوراكي الكاتب الراحل، الى ان شاوول، اي بولس، رسول اليهود الى الأميين، هو «أقوى عبقرية يهودية في عصره». ولا منطق في التشكيك في كون العبرية لغته الأم. وهو لا ريب تكلم، في وقت ثان، اليونانية، لغة شعوب حوض المتوسط. والفصحاء الأقحاح الذين محّصوا «الرسائل» لم يقعوا فيها على ما يشي بعسر كاتبها. وهو حين خاطب شعب يورشليم، قال لهم انه ولد في طرسوس بكيليكيا، ونشأ في مدينتهم، ودرس على جمالييل، وهو معلم جليل، وداعية تسامح. ويبعث على الدهشة، تصدي بولس، وهو في مقتبل شبابه، للمسيحيين، واضطهاده لهم. وعندما رُجم القديس اتيين، كان في صحبة الجلادين، حملة الحجارة المعدة لرمي الضحية بها. وفي «أعمال الرسل» التي رواها لوقا ان بولس كان في عداد الذين قبلوا عمل القتل هذا. وغداة الإعدام، شُنت حملة اضطهاد عنيفة على مسيحيي المدينة، بحسب لوقا نفسه. ورأى بولس ان المسيحيين اعداء يحق قتلهم. وغداة 20 عاماً على الواقعة، أقر بولس في رسالته الى اهل غلاطية بأن سيرته «قبلاً في الديانة اليهودية (انه كان يضطهد كنيسة الله بإفراط (وإتلاف)». وخلفت الذكرى هذه في بولس مرارة قاسية ومدمرة. فتناولها في «رسائله» خمس مرات. وكتب لوقا: «وأما شاوول، فحطم الكنيسة، وكان يقتحم البيوت، وينتزع الرجال والنساء منها عنوة ويرميهم في السجون». وتعظم قراءتنا عبارة بولس: «اضطهدت الطريق حتى الموت» قلقنا وحصرنا. وعندما كنت فتى منخرطاً في «الشبيبة الطالبة المسيحية، قلت لأحد رفقائي في ختام درس في تاريخ المسيحية كان يدعونا إليه أحد الآباء، إكباري لبولس. فأجابني: هل تعلم ان بولس لم يكن من اصحاب يسوع؟ وفي ما بعد، سافرت كثيراً في صحبة بولس، ورأيت المواضع التي مر بها ووقف، وحيث دعا اليهود الى المسيح، أو الوثنيين. فشاهدت تسالونيكي قبل أورشليم، وأفسُس قبل طرسوس، ورومية قبل كورنثوس. وشيئاً فشيئاً رأيت رجلاً عظيماً يخرج من الأماكن هذه، ومن رسائله وعظاته بها، ويهز إيمانه القارئ أو السامع. فهو متصوف على قدر ما هو استراتيجي مدبر. وهو وحده تقريباً أدرك ان مستقبل المسيحية يقضي بمخاطبة الوثنيين، ولا مستقبل لها إلا بهذا. وفي الأثناء، بسط نظرته الى المسيح، ونحت مفاهيم اللاهوت المسيحي. ولعل أخطر ما نعلمه من يسوع من طريق بولس هو خبر العشاء الأخير. وفي خبره هذا العبارات التي بلغتنا على الصورة الصحيحة التي صاغها، وفيها ان يسوع اخذ الخبز وباركه وكسره وقال: هذا جسدي لكم، فافعلوا هذا في ذكري. وبعد الطعام، أخذ الكأس وقال: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، افعلوا هذا في كل مرة تشربون من الكأس وأنتم تذكرونني. ومنذ ذاك، يتكلم يسوع في كل مرة يحتفل فيها كاهن بالقداس بالكلمات التي نقلها بولس عنه. ويقول اتيين تروكميه، مؤرخ الصدر الأول من تاريخ المسيحية في بولس انه شخصية ودور استثنائيان، وهو يختلف عن يسوع اختلافاً كبيراً، ونسبت إليه الأجيال اللاحقة عملاً حاسماً، وهذه معطيات تسوغ الآراء التي حملت بولس على مؤسس المسيحية الحقيقي. فماذا يقصد بقوله هذا؟ كان رايماروس، وهو عالم ألماني من علماء القرن الثامن عشر، ذهب الى ان بولس هو مبتكر المسيحية، وصاحبها. وآثر نيتشه، في القرن التاسع عشر، لفظة مؤسس. وترجح الفرنسي إرنست رينان بين اللفظتين. وأوجز ألفريد لوازي، في 1914، المسألة بالقول: «لم يكن يسوع الذي آمن به بولس المبشر بملكوت الله». فهل نأخذ بهذا الرأي؟ أعيد الكلام الى إتيين تروكميه: «جواب السؤال بالسلب القاطع». وأنا، على تواضع منزلتي، أوافق الجواب بالسلب. وأقول ان «المسيحية»، لا تصح نسبتها لغير المسيح. والأناجيل وحدها دونت المأثور عن يسوع. وما خلا يوحنا، لم يشهد احد من الإنجيليين يسوع. وأُطمئن القارئ، وأدعوه الى التفكر في مرقس الشاب، المعجب إعجاباً لا حد له ببطرس الرسول. وهو صحبه في أسفاره ورحلاته الكثيرة مثل ظله. فكان يقال فيه: «بطرس في الحل والترحال». فكم مرة سمع مرقس رواية بطرس؟ لا شك في انها لا تحصى. وعند وفاة بطرس دعاه المسيحيون الى تدوين ما حفظه اليوم قبل الغد. فلم يتردد. ومدونته هي أول الأناجيل. وكتب الإنجيلي الآخر، لوقا، انه روى كتابة ما تناقله أوائل الشهود العيان. وبين زمن يسوع والوقت الذي كتب فيه بولس «رسائله» عشرون سنة. وانقضى مثلها قبل ان يدون مرقس أول الأناجيل. والفرق بين الوقتين هو تعليل ما بين تعليم يسوع و «رسائل» بولس من فروق يبني عليها الذين يعتقدون ان بولس هو مؤسس المسيحية. ولا ننسى اصول هذا وذاك. فيسوع كان نجاراً عماراً، وولد بالجليل، وهو أرض يهودية خالصة، والآرامية كانت لغته. ولا يلمح أثر الى دراسة، وقلما التقى غرباء عن بلده، رومان او غيرهم. وبولس ولد في أسرة كانت تشهر مواطنتها الرومانية، وهي بعض الشتات المدلِّ بانتشار اليهود في انحاء العالم المعروف كله. وفي مسقطه، طرسوس، وهي ميناء كبير، التقى ناساً من جنسيات كثيرة. ودرس بولس دراسة طويلة بأورشليم. فهل من سيرتين متباينتين على هذا القدر من التباين والاختلاف؟ وبعد عمادته بدمشق، أقام شاوول ثلاثة اعوام بشرق الأردن قبل ان يعود الى اورشليم. وهو كان يعلم ان الرسولين بطرس ويعقوب يقيمان بالمدينة، وتقر لهما الجماعة المسيحية بالصدارة والريادة. فقدم أحدهم، اسمه برنابا وهو من قبرص، القادم الى الرسولين. وأجاب بطرس ويعقوب عن اسئلة بولس، على قدر ما سمح لهما وقتهما المثقل بالمهمات الدعوية. وتعرف بعض المسيحيين في المدينة الى مضطهدهم القديم. ولا يتستر لوقا على الأمر فيكتب: كان يكلمهم وأما هم فكانوا يتربصون به القتل، وبعضهم صفح عنه. فأخرجوه الى قيصرية، ومنها عاد الى بلدة طرسوس. وهناك اقام ثلاثة أعوام في أسرته. وعمل في صناعة الخيام، حرفة أبيه. وزاره يوماً على حين غرة، برنابا الذي كان واسطته الى بطرس ويعقوب. وعلم منه ان شطراً كبيراً من اليهود الهلنستيين هربوا من بيت المقدس غداة رجم اتيين، ولجأوا الى أنطاكية، المدينة والمرفأ العظيمين في طرف المتوسط. وبرنابا واحد منهم. وعلى هذا، ولدت جماعة شاغلها دعوة اليهود الى يسوع. ولما انتبه الدعاة الى اهتمام الوثنيين كذلك بديانة ابراهيم، تساءلوا: أليس حرياً بهم تعريف الوثنيين بيسوع؟ فتذكر برنابا الرجل الذي التقاه بأورشليم، وقيل له انه عاد الى طرسوس. فزاره ورجاه ان يتبعه الى انطاكية. وحين قدم انطاكية علم ان الوثنيين يسمون المؤمنين بالمسيح مسيحيين. فالاسم (النسبة) ولد هناك. وكان شاوول آخر الخمسة المقدمين بين مسيحيي انطاكية. ولم يلبث ان رأى رؤيا رواها الى اهل كورنثوس في رسالته الثانية. ومذذاك، صار بولس معمار المسيحية وبانيها، وبنعمة الرب أرسى الأسس والأركان. وعندما يتصور المعمار الباني في ذهنه، فهو وحده. وهو بقي وحيداً بعد الكنائس التي أنشأها في ولايات آسيا، وفي غلاطية ومقدونيا. وصرم رابطته ببطرس، ورابطته ببرنابا، وبكنيسة انطاكية. واقتصت كنيسة أورشليم من استقلاله بنفسه فأصلته الكراهية. ولم يرجع في دعوته ومعتقده في الخلاص بالإيمان، وجهره ان الصادق الإيمان حي بإيمانه، وأن عطايا الله ونداءه لا عودة عنها. وكان باسكال يقول انه لا يصدق إلا الروايات التي يرويها شهود يقتلون دون رواياتهم وأخبارهم. وبولس واحد من هؤلاء. فهو لا يهاب السجن ولا التعذيب ولا الموت. وسجن في قيصرية، وحمل على ظهر سفينة أبحرت به الى روما، وكاد يغرق في البحر، وهناك مثل امام نيرون الذي قضى بقتله بالسيف وفصل رأسه عن جسده. وغداة عشرين قرناً، لا يزال بولس يمشي في طرقنا، ولهاً الى الله، داعياً الناس الى مصالحة بعضهم بعضاً، والواحد الى مصالحة نفسه، وإلى الإيمان. * مؤرخ، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 27/2/2009، إعداد و.ش