كانت الفاصلة، علامة الوقف، ذريعة جوزيه ساراماغو الى ارتقاء مكانة عالية في عالم الكتابة الروائية. ففي أوائل الثمانينات المنصرمة، والكاتب تخطى الخمسين، كان يكتب رواية تتناول فلاحي ألانتييو، حيث ولد، وقع في أثناء الكتابة على أسلوبه. وشرح الأمر الى «لوموند دي ليفر»، في 17/3/2000، فقال: «كنت أكتب رواية مثل غيرها من الروايات. وفجأة، من غير انتباه أو قصد، بينما انا في الصفحة 24 أو 25 من الرواية بدأتُ أكتب على النحو الذي صار نحوي الخاص في القص وطريقتي، وهو يقوم على مزج الأسلوب المباشر بالأسلوب غير المباشر، وعلى قصر التنقيط على النقطة والفاصلة. وأحسب أن الطريقة هذه لم تكن تتبلور لو لم أستند الى شيء سمعته. كان عليّ أن أقع على نبرة، على نحوٍ ينقل إيقاع القول المحكي وموسيقاه، وهو غير الكلام المكتوب. وبعدها، أعدت كتابة الصفحات العشرين السابقة». وانتهت محاولة اولى، في نهاية أربعينات القرن العشرين، الى الإخفاق. وكذلك محاولة ثانية في منتصف السبعينات. وكانت المحاولة الثالثة، «ليفينتادو دو شاوو» (مرفوع من الأرض)، فاتحة الطريق. ومفتاح أسلوب صانع الأقفال السابق هو محاورات ذائبة في كتلة نثرية متماسكة ومرصوصة. ومطلع المحاورات فاصلة يتبعها حرف مكتوب بجسم كبير، قرينة على تغير المتكلم. ووَلَد هذا روايات كثيرة وجوه العبارة ومصادرها، على شاكلة المتاهات، مثل «المعبود الأقطع». ففي هذه الأعمال تختلط الأصوات، وتشبه الرواية أعمال الأوبرا، ويعلو الكلامُ الكلامَ ويتخللهما كلام الراوي العالِم بالشاردة والواردة والساخر غالباً. وفي «الإنجيل برواية يسوع المسيح» يتخلل كلام الخالق القص. وكتب ساراماغو في «العبّارة الحجرية» (1990): «في الفنون المتفرقة، وعلى الأخص في فن الكتابة، خير طريق بين موضعين قريبين لم يكن يوماً، ولن يكون خطاً مستقيماً». واقتضاء صوغ كتابته وقتاً طويلاً حمله على فنّ حكاية يتوسل بالجمل الملتفة، ويستند الى فكرة روائية يتعقب الكناية عنها الى آخر مطاف الكناية، وما وسعه التعقب. وشرح هذا بالقول: «أحتاج الى سماع صوت يقول ما أنا في صدد كتابته ويعلنه، وإذ ذاك يبدأ المحرك العمل، وإلا بركت حيث أنا ولم أبرح مكاني. وأحتاج كذلك الى فكرة راجحة ونافذة. وقد أنتظر ثلاثة أشهر أو أربعة. فالتصورات تروح وتجيء. وحين ألقى الفكرة التي أنتظرها لا يخالجني شك في الأمر». وعلى هذا، يغير مصحح (طباعي) مجرى حصار لشبونة («تاريخ حصار لشبونة»)، وتصرم شبه الجزيرة الأيبرية رابطتها بأوروبا وتنكفئ على حال الجزيرة («العبّارة الحجرية»)، وينتحر يوسف تحت وطأة مقتل الأبرياء («الإنجيل برواية يسوع المسيح»)، ويفيق الناس كلهم صباح يوم من الأيام عمياً أو قريبين من العمى («العمى»). فأفكار ساراماغو، على رغم إلحاحها في بعض الأحيان، تلابس مخيلة غنية تستحوذ عليها. * ناقد أدبي، عن «لوموند» الفرنسية، 21/6/2010، إعداد وضاح شرارة.