لم يقل المسؤولون الأتراك في أي يوم، بما في ذلك في الفترة الأخيرة بالذات، الا أنهم أتراك أولا وأخيراً، وإن سياساتهم الداخلية كما الخارجية، تنبع من مصالح بلدهم وتصب في النهاية في خدمته. لكن ذلك لم يمنع بعض «الممانعين» العرب والمسلمين من أن يذهب مذهباً مختلفاً... ليتحدث تارة عن عودة «الخلافة العثمانية» لمواجهة امبراطورية صفوية مفترضة، وتارة ثانية عن «صلاح الدين» تركي جديد في شخص رجب طيب أردوغان لإعادة تحرير القدس، وثالثة عما يوصف ببداية «عصر تنوير» اسلامي جديد يكون من شأنه أن يسدل الستار على مرحلة من التخلف الفكري الاسلامي والوهن السياسي العربي وأن يفتتح مرحلة أخرى من الاصلاح على نسق ما كان نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ولا يحتاج المراقب الى عميق تفكير، ليكتشف أن تركيا «حزب العدالة والتنمية» حالياً ليست في أي من هذه المواقع، كما لم تكن فيه في أي وقت سابق بما في ذلك في عهد تورغوت أوزال الذي بدأ الانعطافة التركية الراهنة باتجاه الشرق. ذلك أن هذه الدولة التي بدأت تبحث عن دور اقليمي لها بعد انتهاء الحرب الباردة (وكانت في خلالها، جنباً الى جنب مع اسرائيل، رأس حربة للولايات المتحدة والغرب عامة في مواجهة الاتحاد السوفياتي)، تطلعت بداية الى الجمهوريات الاسلامية، أو ما تسميه هي «الجمهوريات الطورانية»، التي انفصلت عن موسكو بعد انهيار الدولة السوفياتية. لكن محاولتها هذه باءت بالفشل، أو أقله لم تكن ناجحة بما يتوافق مع طموحات الدولة الصاعدة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. أما أسباب ذلك، فكانت غربية – أميركية وأوروبية أساساً- التي رأت دولها في الجمهوريات الجديدة أرضاً خصبة لكل أنواع الاستثمار الاقتصادي، وتالياً السياسي، كما من الجمهوريات ذاتها التي اعتبرت أن الولاياتالمتحدة ودول أوروبا أكثر قدرة من تركيا على تلبية حاجاتها في البناء الاقتصادي والانفتاح على الأسواق العالمية. وعملياً، لم يكن دخول أنقرة في تلك الفترة على خط الخلافات الحدودية بين الدول الجديدة (نموذج ناغورنو كاراباخ بين كل من أرمينيا واذربيجان وأبخازيا) ووقوفها سياسياً، وحتى مادياً وعسكرياً، الى جانب طرف فيها في وجه طرف آخر الا محاولة منها لتأكيد دور ونفوذ اقليميين لها على مساحة المنطقة من ناحية وبين دولها من ناحية ثانية. في الوقت ذاته، كما بات معروفاً للجميع، كان المسعى التركي الفاشل بدوره للانضمام الى الاتحاد الأوروبي بعد سلة الشروط/العقبات التي وضعها الاتحاد في طريق هذا المسعى. كما كان صعود «حزب الرفاه» الاسلامي المتشدد بزعامة نجم الدين أربكان، ثم حل هذا الحزب نتيجة اصطدامه بالمؤسسة العسكرية والعلمانيين، وصولا في عام 2003 الى نجاح «حزب العدالة والتنمية» في الانتخابات التشريعية وتسلمه مقاليد السلطة... لتأخذ نظرية البحث التركي عن دور ونفوذ لها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة صيغتها الحالية. ولعل أبلغ وصف لهذه الصيغة هو الوصف الذي أطلقه عليها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بكلمة واحدة («صفر مشاكل»)، وفيه اشارة واضحة الى أن الهدف يشمل منطقة النفوذ المطلوبة كلها، من الشرق الأوسط العربي الى آسيا الوسطى الى البلقان، وليس منطقة بعينها – الجوار العربي مثلا – أو قضية بعينها – قضية فلسطين – أو غيرها. لكن «الممانعين» العرب والمسلمين يمتنعون هنا – بل هم «يمانعون» كعادتهم – عن رؤية أن كلمة («صفر مشاكل») هذه تسري على علاقات تركيا مع اسرائيل كما على غيرها من دول المنطقة، بل وربما أكثر منها نتيجة العلاقات الخاصة، العسكرية تحديداً، بين الدولتين طيلة عقود طويلة. وطبيعي أن يكون انعدام الرؤية هذا وراء استغراق «الممانعين» في الحديث عن «تركيا العربية» أو حتى عن «تركيا الاسلامية» لمجرد بروز سوء تفاهم بين تركيا واسرائيل في موضوع العدوان على قطاع غزة قبل عامين، أو حول «قافلة الحرية» التي حاولت كسر الحصار على القطاع ومنعتها اسرائيل بالقوة قبل حوالى أسبوعين. ما تريده تركيا، وقد عبر عن ذلك قادتها ومسؤولوها مراراً، هو المساعدة على بناء حالة من الاستقرار في المنطقة توفر لها علاقات حسن جوار مع البلدان العربية، ودول آسيا الوسطى (أرمينيا، وأزمتها التاريخية مع الأرمن) ودول البلقان (اليونان، والوضع في قبرص) فضلا عن أوروبا نفسها. جغرافيتها السياسية تؤهلها لمثل هذه العلاقات، لكن اعتدالها السياسي من جهة وتقدمها الصناعي والاقتصادي من جهة ثانية يدفعانها بقوة في اتجاهها. ولم يكن الا في هذا السياق قرار حكومتها – بالرغم من علاقاتها مع واشنطن وعضويتها في حلف شمال الاطلسي – منع استخدام أراضيها والقواعد الأميركية فيها في غزو العراق. كذلك كان قرارها التوسط في المفاوضات بين سوريا واسرائيل من جهة، وبين المكونات السياسية العراقية المختلفة من جهة ثانية، وبين ايران وبلدان الخليج العربية من جهة ثالثة، وصولا في المرحلة الأخيرة الى التوسط بين ايرانوالولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي حول الملف النووي الايراني من جهة رابعة. في الوقت ذاته، كانت تبدأ حركة ديبلوماسية ناشطة باتجاه كل من أرمينيا واليونان – عدوتيها التاريخيتين – وباتجاه الأكراد سواء على حدودها مع العراق وايران أو في الداخل التركي نفسه، بصرف النظر عن مدى التقدم أو الفشل في هذه المجالات كلها. «صفر مشاكل»، هذه هي أداة «حزب العدالة والتنمية» لتحقيق أحلام تركيا في أن تكون قوة اقليمية فاعلة ونافذة في المرحلة الحالية. وطبيعي ألا يتم ذلك بسهولة، أو ببساطة، في منطقة تنوء تحت عبء مشكلات تاريخية – سياسية وثقافية وطائفية ومذهبية وعرقية – لم تكن تركيا نفسها بعيدة من بعضها في الماضي البعيد، وحتى في الماضي القريب كما هو الحال بالنسبة لقضية تقسيم قبرص أو بالنسبة لتعاونها الوثيق جداً مع اسرائيل في العقود الأخيرة. وما يحدث حالياً، في سياق الخطة التركية هذه، وحتى في سياق رد الفعل الاسرائيلي العنيف عليها، لا يعدو كونه نوعاً من الاشتباك، أو «الكباش» بالمعنى القروي للكلمة، من أجل تحديد أين يبدأ وأين ينتهي الدور الاقليمي لكلا الطرفين... وان يكن، أساساً وفي المقام الأول، من ضمن النظرة الاستراتيجية الغربية الى المنطقة. ولعل هذا ما يفسر رد الفعل الاسرائيلي المتشنج (ولكن بديبلوماسية) على موقف أردوغان من العدوان على غزة، ثم رد الفعل التركي المتشنج (ولكن بديبلوماسية أيضاً) على المجزرة التي ارتكبتها الآلة العسكرية الاسرائيلية بحق سفن المساعدات التركية الى قطاع غزة. بل وأكثر، فلم تلجأ أي من العاصمتين الى قطع العلاقات الديبلوماسية بينهما مثلا، ولا الى تجميد اتفاقات التعاون العسكري وتبادل المعلومات المخابراتية، ولا حتى الى استدعاء السفراء للتشاور كما يحدث عادة بين الدول في مثل هذه الحالات. * * * ليس من شك في أن المقاربة التركية الجديدة للمسألة الفلسطينية ولقضية الصراع العربي – الاسرائيلي عموماً هي في مصلحة العرب، كما هي في مصلحة تركيا التي تبحث عن دور لها في المنطقة. لكن ما يبقى هو أن تهدأ أعصاب «الممانعين» العرب، وحتى المسلمين في المنطقة والعالم، لأن ما بين تركيا واسرائيل ليس الا «كباشا» سياسياً ومصلحياً بامتياز. * كاتب وصحافي لبناني.