أصدرت المحكمة الإدارية العليا في مصر حكمين في دعويين منفصلتين يلزمان البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بالتصريح لاثنين من الأقباط المطلقين بالزواج مرة أخرى. وقالت المحكمة في أسباب الحكم المثير للجدل: «إن تكوين الأسرة حق دستوري، يعلو فوق كل الاعتبارات، وإنها إذ تحترم المشاعر الدينية، غير أنها تحكم وفقاً لما قرره القانون، وإن القاضي لا مفر أمامه إلا تنفيذ ما نص عليه القانون، ويعتبر الحكمان باتين ونهائيين وغير قابلين للطعن». يأتي الحكم السابق على خلفية قيام أحد المواطنين من الأقباط باختصام البابا شنودة بدعوى طعن فيها على رفض الكنيسة منحه تصريحاً بالزواج مرة أخرى بعد طلاقه من زوجته الأولى. وكانت محكمة القضاء الإداري أصدرت حكماً لمصلحة المدعي وقضت بأحقيته في الحصول على هذا التصريح إلا أن الكنيسة القبطية وعلى رأسها البابا شنودة الثالث طعنت على الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا. يعود السبب الأساسي لتفاقم قضايا الأحوال الشخصية للمواطنين المسيحيين المصريين هو أن السلطة القضائية في مصر تحتكم إلى لائحة 1938 في الحكم على قضايا الأحوال الشخصية، بينما تعتمد الكنيسة القبطية القرار البابوي لعام 1971 الخاص بعدم الطلاق إلا لعلة الزنا. وبالتالي، فإن طلاق المحكمة هو الأساس الذي تعتمد عليه الكنيسة في ما بعد، وليس العكس. كما أن الكنيسة لا تعترض على طلاق المحكمة، ولكنه غير ملزم للمجلس الإكليريكي المنوط به إعطاء تصريح الزواج الكنسي. أي أنه لا يلزم المجلس بإعطاء تصريح زواج لأي من الزوجين سوى لمن تنطبق عليه شروط الكنيسة في هذا الأمر. وهو موقف مؤسسي للكنيسة التي تلتزم بتعاليم الكتاب المقدس التي تحث على عدم الطلاق إلا لعلة الزنا وتمنع الزواج مرة ثانية، لأن الزواج في المسيحية سر من الأسرار السبعة على غرار أركان الإسلام الخمسة. إن الفرق بين حكم المحكمة وأحكام الكنيسة في الزواج هو أن الأول حكم مدني، بينما تحتكم الكنيسة إلى شرائعها الدينية. فالزواج إجراء مدني بحت تحكمه القواعد والأشكال الدينية، كما أن من يقوم بعقد الزواج هو رجل دين سواء في المسيحية أو في الإسلام. فسّر البعض موقف رفض الحكم بأن الكنيسة لا يمكن لها أن توافق على فكرة الزواج الثاني حرصاً على الأسرة المسيحية، وعدم انهيارها وتكرار وشيوع فكرة الزواج والطلاق مما قد يؤثر سلباً في تماسك الأسرة المسيحية. واعتبر العديد ممن يتحدثون باسم الكنيسة أن حكم القضاء الإداري هو بمثابة تحد للمسيحية، وقالوا إنه غير ملزم للكنيسة التي لها طقوس خاصة في الزواج يجب على القضاء احترامها، وعدم التدخل غير المبرر في أصول العقيدة المسيحية. وبالتالي، يحق للكنيسة الاعتراض على حكم المحكمة لأنه يتجاوز صلاحيات الكنيسة في إجراءات الزواج وشروطه. كل ما سبق ترتب عليه وجود قلة من أصحاب مشاكل الأحوال الشخصية مع تنفيذ حكم المحكمة، وغالبية ترفضه على اعتبار أنه مخالف للشريعة المسيحية. لا يمكن للبابا أو غيره أن يغير ما جاء بالكتاب المقدس. كما أن حكم المحكمة هنا لم يراع المعتقد الديني المسيحي. ولكن في الوقت نفسه، أؤكد أهمية أن تبحث الكنيسة في زيادة حالات بطلان الزواج مع حفظ النسب في شكل قانوني لكي لا نفتح باب التشكيك والتخوين. وذلك كي نحد من الزيادة المطردة لمشكلة الأحوال الشخصية للمسيحيين في مصر، وحتى لا يستغل أحد هذا الموقف للمزايدة على الكنيسة ومن قبلها على الدولة المصرية. أعتقد في خطورة من يحاول تصوير رفض الكنيسة المصرية لقرار محكمة القضاء الإداري الأخير على أنه صدام جديد بين الكنيسة والدولة في محاولة أخرى للخلط بين ما هو ديني وما هو قانوني. بالطبع، ليس للقضاء سلطة على الجانب الروحي للكنيسة خصوصاً في ما يتعلق بالطقوس والشرائع المسيحية. غير أن قضية الأحوال الشخصية تحمل في الوقت نفسه بعداً اجتماعياً قانونياً. وهو ما يتطلب اجتهاداً دينياً قانونياً في إطار الحفاظ على هيبة القضاء من جانب، ودون المساس بالعقائد والشرائع الدينية من جانب آخر. إن علاقة المواطن المصري المسيحي بالدولة هي علاقة قانونية ومدنية وفق نصوص تشريعية تقنن الالتزام الوطني والقانوني، بينما علاقته بالكنيسة هي علاقة دينية وروحية وفق مرجعية إنجيلية تقنن الالتزام الديني. وبالتالي، فهناك أهمية قصوى في احترام وتقدير أحكام القضاء... بما لا يخالف الشريعة المسيحية. وأقترح في هذا الصدد بعض الحلول التي يمكن تبنيها لحل تلك المشكلة، وعلى سبيل المثل: 1 – إعادة النظر في مواد قانون الأحوال الشخصية الموحد لجميع الطوائف المسيحية لتقديمه للجنة المشكلة لهذا الصدد من وزير العدل المصري أخيراً، وهو المشروع الذي تم تقديم النسخة الأولى منه عام 1980، ثم أعيد تقديمه مرة أخرى في عام 1998 وفي العام 2005 إلى وزارة العدل بعد تعديل بعض مواده. ويشتمل القانون المذكور على 146 مادة موزعة على خمسة أبواب. وأشير هنا إلى أن تأخير إصدار قانون الأحوال الشخصية الموحد لجميع الطوائف المسيحية يجعل الكنيسة وحدها هي التي تتحمل تبعات مشكلة الأحوال الشخصية للمواطنين المسيحيين المصريين أمام المجتمع وحدها في ظل وجود تقاعس من الدولة في شأن مناقشة مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد لجميع الطوائف المسيحية بمصر، أي أن الدولة تشارك – الكنيسة – في زيادة معاناة العديد من الأسر المصرية. كما أؤكد أنه لو قامت الدولة بإصدار قانون الأحوال الشخصية الموحد لجميع الطوائف المسيحية بمصر... فإنه لن يكون هناك صراع أو صدام بين الكنيسة والمحاكم، وبالتالي، لن يكون هناك احتياج للمجلس الإكليريكي للأحوال الشخصية (التابع للكنيسة)... لأن القانون المدني هنا سيصبح هو الفيصل، فإذا قامت المحكمة بالتطليق أو بإعطاء بطلان زواج طبقاً للمبادئ المسيحية... لن يكون على الكنيسة سوى إعطاء التصريح بالزواج لمن أقرت المحكمة بأحقيته في ذلك. وهذا بالطبع لا ينفي عدم اتفاقنا واختلافنا مع ما جاء به قانون الأحوال الشخصية الموحد والمقترح من الكنيسة والمقدم إلى وزارة العدل... من قيود إضافية... تحتاج إلى إعادة قراءة. 2 – والاقتراح الأفضل هو إصدار قانون مدني موحد للأحوال الشخصية يؤكد حقوق المواطنة، وينظم لعلاقات الأسرة المصرية سواء كانت مسيحية أو إسلامية بنصوص واحدة تراعي الآراء الدينية المستنيرة من جانب، واحتياجات العصر من جانب آخر. بمعنى أن يتضمن القانون أحكاماً مشتركة لكافة المصريين مسيحيين ومسلمين... مما لا خلاف عليه، وذلك على غرار: الرضاء بالزواج، وواجبات الزوجين الشخصية والمالية، والعلاقة بأطفالها. ثم تفرد أحكاماً للمسيحيين تفترق عن أحكام المسلمين في المسائل الخلافية على غرار: انعقاد الزواج والطلاق، وتعدد الزوجات والميراث والتبني. 3 - أعتقد أنه قد آن الأوان لكي تقوم الدولة بتسجيل الزي الكهنوتي في شكل قانوني من جانب، وإعطاء الصبغة الرسمية بقرار من وزير العدل المصري بالكهنة المعترف بهم رسمياً من الكنيسة والذين يحملون دفاتر توثيق الأحوال الشخصية لكي تساعد أبناءها من المواطنين المصريين المسيحيين في عدم الوقوع في شرك بعض الكهنة (الموقوفين) من الكنيسة، والذين يقومون بالتزويج وتوثيق ذلك قانونياً في مقابل مبالغ مالية تتراوح حسب الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها طالب الزواج. تبقى لي ملاحظة أخيرة، وهي في اعتقادي... مفارقة مهمة على مشهد التعامل مع قرار محكمة القضاء الإداري. وهي أن العديد من ردود الأفعال سواء من النخبة المسيحية أو الإسلامية المصرية، ومن قبلهم رد فعل الكنيسة قد اعتمد على الاستشهاد بآيات القرآن الكريم للتأكيد على أن يتم إصدار الأحكام المتعلقة بالمسيحيين المصريين طبقاً لشريعتهم وعقيدتهم. وهو ما يعني أن النخبة الفكرية والكنيسة التي تطالب بتطبيق منظومة المواطنة والدولة المدنية وقعت هي نفسها في مأزق الطائفية باستدعاء آيات القرآن الكريم والاحتكام للشريعة الإسلامية بوجه خاص، وبالتبعية لمنطق الدولة الدينية بوجه عام من أجل إثبات وتأكيد مسؤولية الكنيسة عن الأحوال الشخصية والدفاع عن هذا الموقف بدلالات دينية في استبعاد واضح وصريح ومباشر لمبادئ الدولة المدنية ومنظومة المواطنة التي طالبوا بها قبل ذلك كثيراً. وهو ما يؤكد أن ما حدث في حكم القضاء الإداري ليس إلا تداخل في العلاقة بين الدين والدولة من خلال المواجهة التي حدثت بين الكنيسة والقضاء. * كاتب مصري.