تتحرّك الأنامل الصغيرة ممسكة بالقلم المصنوع من القصب، تغمسه في الحبر لتخطّ سطورها الأولى على طريق العلم والمعرفة. ويتذكر صاحب الأنامل عالم البيئة الراحل الدكتور مصطفى كمال طلبة (1922 - 2016): «كان الحبر دائماً يطلع على إيدي، وكان معلمي الشيخ تاج الدين يقول لي: هو إنت يا بني خالك صبَّاغ؟»، حينها، لم يدرك أحد أن الأنامل المحبّرة ستكبر وتتعلم وتخط مجموعة من أهم اتفاقات البيئة العالميّة ك «الاتفاق العالمي للتنوّع البيولوجي»، و «الاتفاق العالمي للتصحّر»، و «اتفاق فيينا» و «بروتوكول مونتريال لحماية طبقة الأوزون». وإضافة إلى تلك الاتفاقات، وقفت جهود الراحل طُلبَة وراء إنشاء «صندوق الأوزون العالمي»، و «لجنة الأممالمتحدة لتغيّر المناخ»، فضلاً عن صوغ برنامج القرن 21 للبيئة في سياق «قمة الأرض» الأولى في مدينة «ريو» البرازيليّة (1992). وساهمت تلك الخطوات في رسم معالم العمل البيئي العالمي المعاصر. «العملاق الأخضر» وُصِف طُلبَة ب «الأب الروحي للبيئة»، وترك رحيله حزناً عميقاً على رجل كرَّس حياته لقضية التنمية والبيئة. ونعته كبريات صحف بريطانيا، بل خصّصت مجلة «الإيكونومست» العالميّة مقالاً مطوّلاً لنعيه، ووصفته ب «العملاق الأخضر» Green Giant، وجعلت العنوان الرئيسي للمقال: «وفاة مبتكر النظام الناجح لتخفيض الانبعاثات عالميّاً»، مع صورة كبيرة للراحل. وركّزت «الإيكونومست» على إنجازاته في العمل البيئي عالميّاً، على غرار دوره في «بروتوكول مونتريال» لحماية طبقة الأوزون، الذي كان أحد أنجح الاتفاقات العالميّة. إذ استطاع الدكتور طلبة أن يجمع أعداء السياسة والاقتصاد للجلوس معاً من أجل البيئة وإنقاذ الكوكب، وأن يفتح حواراً متواصلاً بين دول الشمال ودول الجنوب، مبتكراً فن التفاوض البيئي الذي عُرِف باسم «الديبلوماسية الخضراء». وفي أوائل السبعينات من القرن الماضي، كان طُلبَة رائداً في طرح أفكار حول تحقيق التنمية من دون تدمير البيئة. وترأس وفد مصر في «مؤتمر استوكهولم للبيئة» (1972)، وهو أول مؤتمر عالمي عنها. وحينها، كان رئيساً ل «أكاديمية البحث العلمي» في مصر. وفي استوكهولم، تكشفت القدرات العلميّة والتفاوضيّة للعالِم طُلبَة، ورشح للتحدث باسم المجموعتين العربيّة والأفريقية خلال مفاوضات جرت في ظل خلافات شديدة بين دول الشمال والجنوب. وفي ذلك المؤتمر، طلب طُلبَة من موري سترونغ، وهو سكرتير عام المؤتمر، تكوين لجنة من عشرة أشخاص نصفهم من الدول النامية والنصف الآخر من الدول المتقدمة. وخاض الطرفان مشاورات ماراتونيّة كانت تستمر حتى الساعات الأولى من الصباح. وكانت إحدى توصيات المؤتمر، إنشاء «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» UN Environement Program الذي عُرِف باسمه المختصر «يونيب». وعمل طُلبَة في ذلك البرنامج لقرابة17 سنة متواصلة. وضمن لقاءات شخصيّة متنوّعة معه، حكى الدكتور طُلبَة أن سترونغ عندما عُيّن مديراً ل «يونيب» في 1973، استدعاه في زيارة غير رسميّة ليبلغه أن كورت فالدهايم، أمين عام الأممالمتحدة حينها، طلب تعيين طُلبَة نائباً للرئيس في «يونيب». وفي العام 1976، انتخبته الجمعية العامة للأمم المتحدة مديراً تنفيذياً ل «يونيب»، وأعيد انتخابه لأربع ولايات متتالية، مدة كل ولاية أربع سنوات. وعقب وفاته مطلع الشهر الفائت، نعى «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» الدكتور طُلبَة، مشيراً إلى أن «العالم فقد قائداً حقيقياً وصاحب رؤية قدّمت للعالم ديبلوماسية البيئة. وأثناء قيادته، منح برنامج «يونيب» حيوية ونشاطاً وقوة داخل الأممالمتحدة. وأصبح للبرنامج دور محوري في التنسيق بين الحكومات والقطاع الخاص والأكاديميين والمجتمع المدني. وعبّر عن فلسفته في كلماته التي يؤمن بها: «التنمية من دون تدمير». واستطاع الدكتور طُلبَة بميزانية صغيرة لل «يونيب»، أن ينفذ آلاف المشروعات، وأن يصل بالحوار إلى الكثير من الاتفاقات البيئية العالميّة». رجل الساعة الأولى كذلك نعى آشم شتاينر، المدير التنفيذي لبرنامج «يونيب»، طُلبَة قائلاً: «فقدنا قيادة ذات رؤية، وصديقاً كانت حياته رحلة استثنائية، وكان لديه فهم عميق لعلاقة البيئة بالتنمية، تعلمنا منه الكثير. بذل حياته لخدمة الناس والكوكب». ووصفه شتاينر ب «رجل الساعة الأولى». ويؤثر عن طُلبَة اهتمامه بالدول النامية وحقوقها العادلة وفرصتها في التنمية. إذ اعتبر أنّ التكنولوجيا مهمة جداً، ما يفرض على الدول النامية أن تبذل جهداً في الحصول على التكنولوجيا المناسبة، مشدّداً على أهمية العلم في «ثلاثيّة» التفكير والتخطيط والتنفيذ. ومن الموضوعات التي اهتم بها أيضاً، مسألة التمويل. إذ طالما حلم بإنشاء صناديق عالميّة لتمويل قضايا البيئة المختلفة، كالأوزون والتصحّر والتنوع البيولوجي وغيرها، مع إعطاء أولويّة لتحديد أهداف التمويل ومصادره. وعربيّاً، اهتمّ طُلبَة بموضوع الطاقة، معرباً عن اعتقاده بأنّ الدول العربيّة البتروليّة يفترض بها أن تضع قدراً من عوائد البترول للبحث العلمي في مجالين مهمّين، هما إنتاج الخلايا الشمسيّة وثانيهما إنتاج أغشية تحلية مياه البحر. ولفت دوماً إلى أن العالم العربي يتمتّع بأعلى تركيز للطاقة الشمسية، وهو في حاجة شديدة إلى تحلية المياه. ولاحظ أن العرب يستوردون المكوّنات الرئيسة لتلك التحلية، ما يفرض ضرورة دعم الباحثين في مشروعات تتصل بإنتاج الخلايا الشمسيّة وأغشية تحلية مياه البحر. وأعطى أهمية كبرى لتوطين تلك التقنيّات كشرط للتحرّر من ربقة الاستيراد، لأن الشركات العالميّة تحتكر تلك التكنولوجيات ولن تتنازل عنها، ما يعني البقاء في إطار مشروعات التجميع.