يستعيد متحف «موسم» المتخصص في الحضارات الأوروبية والمتوسطية في مرسيليا، محطات أساسية في مسيرة الأديب الفرنسي الراحل جان جينيه، من خلال معرض جميل مقام حالياً تحت عنوان «جان جينيه»، وهو يتزامن مع مرور ثلاثين عاماً على وفاته. أشرف على المعرض المدير الأدبي لمعهد «مذكرات النشر المعاصر» في باريس ألبير ديشي، والكاتبة والباحثة إيمانوييل لامبير، وهما متخصصان في أدب جان جينيه. يضم المعرض وثائق نادرة، منها مخطوطات لأعماله منذ بداية صدورها وصور فوتوغرافية وملصقات... وهي موزعة على ثلاث قاعات تجمع بينها منحوتة بعنوان «الرجل الذي يمشي» للنحات السويسري الراحل ألبرتو جياكومتي، الذي كان صديقاً له. وبالقرب من هذه المنحوتة التي تعدّ من أعماله المعروفة، تطالعنا أيضاً لوحة بورتريه لجان جينيه أنجزها جياكومتي عام 1955، مع رسم آخر تخطيطي لوجهه. تمّ تخصيص الصالة الأولى في المعرض لكتاب جينيه وعنوانه «يوميات لص» الذي صدر عام 1949، ونقله الى العربية في صورة متقنة المترجم الفلسطيني أحمد عمر شاهين، وصدر عام 1998 عن دار «شرقيات» في القاهرة. نقرأ في هذه اليوميات ما كتبه جينيه عن الزهرة التي تحمل اسمه «جينيه»، أي زهرة الوزّال التي كان يشعر بأن ثمة رابطاً عميقاً يجمعه بها. وكانت طالما استوقفته وهو عائد في المساء من زيارة أطلال «تيفوج»، حيث كان يعيش جيل دوري «فأرنو إليها بخشوع ومحبة، ويبدو أنّ مشكلتي تكمن في الطبيعة التي تحكمت في عاطفتي، واتسقت معها، فأنا وحيد في هذا العالم، ولست متأكداً إذا كنت ملك هذه الزهور أو شيطانها، فهي تبدي لي الإجلال حين أمرّ فتنثني دون انحناء، لكنها تعرفني، وتدرك أني كيانها المتحرك وممثلها الرشيق هازم الرياح. هي شعاري، ومن خلالها تمتد جذوري في تلك التربة الفرنسية التي تغذت على العظام المسحوقة للأطفال والشباب الذين ضاجعهم جيل دوري ثم ذبحهم وأحرقهم... وهكذا عبر اسمها الذي أحمله، أصبحت المملكة النباتية هي أليفتي، أنظر إليها باحترام لا بشفقة، فهي أفراد عائلتي وإذا ربطت نفسي بالممالك السفلي، فإن هبوطي هناك، كان لأجل الطحالب ونبات السرخس ومستنقعاته، وابتعدت أكثر عن البشر». في «يوميات لصّ»، يروي جينيه سيرته بعد أن تخلّت عنه والدته وهو لم يبلغ بعد العام الواحد، وأودعته بسبب الفقر في المؤسسة العامة لرعاية اللقطاء. وبسبب الطفولة الجريحة والكسل، على حدّ تعبيره، سيصبح جينيه لصاً وستقوده السرقة إلى الإصلاحية التي كان من المفترض أن يبقى فيها حتى الواحدة والعشرين من عمره. لكنه سيهرب منها ليتطوّع في الجيش، وقد قادته الجندية إلى دول كثيرة منها المغرب والجزائر وسورية... ولن يستمر في الجيش بل إنه سيهرب مجدداً ليعود الى التشرد والسرقة. في هذا المعرض، تُعرَض وللمرة الأولى وثائق تعرّف أكثر بوالدته التي حمل جينيه اسمها. من تلك الوثائق، رسائلها الحزينة التي تعلن فيها عن قرارها بالتخلي عنه ضد رغبتها. كما تطالعنا الرسالة التي كتبها جينيه لمؤسسة رعاية اللقطاء لمعرفة أصوله... باختصار، نحن هنا أمام أبرز الوثائق التي تشهد على مسيرة غير عادية موزعة بين التشرد والجريمة والمثلية الجنسية، ومنها استوحى الكاتب الكثير من شخصيات رواياته ومسرحياته. من بدايات جينيه مع «يوميات لص» إلى مسرحه، وبالتحديد مسرحية «الستائر» أو «البرافانات» التي كتبها عام 1961، وتُعدّ علامة فارقة ليس فقط في نتاجه الإبداعي، بل في تاريخ المسرح الحديث ككل. في هذه المسرحية، روى جينيه فصولاً من الاحتلال الفرنسي للجزائر منذ عام 1830 وحتى حرب التحرير، وعبّر فيها بلغة شعرية مكثفة عن مواقفه السياسية ووقوفه إلى جانب المظلومين من دون اللجوء الى خطاب سياسي مباشر. ونشاهد في المعرض، رسوماً ملوّنة للأزياء التي صمّمها أندريه أكار، ونسخاً من طبعتها الأولى وصوراً ووثائق عن المرة الأولى التي عُرضت فيها المسرحية عام 1966، على خشبة مسرح «الأوديون» الشهير في باريس، وكانت من إخراج روجيه بلين. وقد أثارت وقتها ردود فعل غاضبة من الفرنسيين الذين كانوا لا يريدون وقف الحرب، وكانوا مع استمرار سياسة فرنسا الاستعمارية، واعتبروا عرضها فضيحة سياسية حتى لو لم تكن تسمّي الأشياء بأسمائها. القاعة الثالثة من المعرض، وهي مخصصة للمرحلة الأخيرة من حياة جان جينيه، وفيها توقّف عن الكتابة ليعود إليها مع نص بعنوان «أسير عاشق» صدر عام 1986، وقد وضع فيه خلاصة علاقته بالفلسطينيين الذين عرفهم منذ مطلع السبعينات، عندما أقام في الأردن متنقلاً بين قواعدهم ومخيماتهم، ووجد في قضيتهم مختصراً للقضايا الإنسانية التي طالما هيمنت على كتاباته منذ بداياته. ويعد كتاب «أسير عاشق» في مثابة وصيّته، وقد صدر بعد وفاته. في شريط فيديو يبثّ في المعرض، يتعرف الزائر إلى شهادات من بعض الشخصيات العربية التي عرفته عن قُرب وكانت على صلة عميقة بشخصه ونتاجه، وأولها الديبلوماسية الفلسطينية ليلى شهيد التي دخلت معه عام 1982 مخيم صبرا وشاتيلا بعيد حدوث المجزرة في شهر أيلول (سبتمبر). ومن مشاهداته هناك، استوحى جينيه نصّه الفذّ الذي يحمل عنوان «أربع ساعات في شاتيلا»، والذي نشر عام 1983 في «مجلة الدراسات الفلسطينية». وواكب المعرض صدور كاتالوغ مميّز بصياغته وإخراجه، وقد استهلّته المشرفة عليه إيمانويل لامبير التي قدّمت مراجعة لسيرة جينيه ومؤلفاته، وموقعه في العصر. وأشارت إلى فهمه معنى الحرية وقد اختزله ذات يوم من أيام 1968، وأمام تجمّع من الطلبة، بقوله: «على الإنسان أن يكون وحيداً، فقيراً ومجهولاً»... في الكاتالوغ تطالعنا أيضاً محتويات المعرض، إضافة إلى فقرات من بعض كتبه، وإلى مراجعة للظروف التي التقى فيها النحات ألبرتو جياكومتي ولما كتبه عن محترفه وفنّه. يبقى أخيراً أنّ جان جينيه وبعكس ما قاله عن نفسه، قبل فترة وجيزة من رحيله، إنه لم يترك الشيء الكثير، تركَ الكثير، أدباً ومسرحاً وشهادات إنسانيّة. نصوصه المسرحيّة قُدّمت في مسرح «الكوميديا الفرنسية»، وكتبه صدرت عن دار «غاليمار»، أما نتاجه في صورة عامّة فلاقى ترحاباً على المستوى العالمي، وكُرّست له كتب ودراسات كثيرة من بينها ما يحمل توقيع كلّ من الفيلسوفين جان بول سارتر وجاك ديريدا. هكذا كان «الأسير العاشق» وحيداً، لكنّه كان مُشعاً، ولم يكن معزولاً على الإطلاق.