ليس في العالم اليومي المتكرّر ما يثير الفضول، فما يأتي بالجدة يأتي من عالم غير مألوف يصدم العين والذاكرة. جعل لويس كارول (1832- 1898) من الفرق بين العادي البليد والغريب المدهش موضوع كتابه الشهير «أليس في أرض العجائب» الذي يبدو، في وجه منه، عملاً فلسفياً يمتع الأطفال، وحكاية للأطفال تلتقي بأسئلة الفلاسفة. وما حكاية أليس إلا حكاية انتقالها من عالم السأم، الذي لا جدّة فيه، إلى عالم لم تألفه، يتيح لها الهرب مما ضاقت به، ويسمح لها باكتشاف ما لا تعرفه. تبدأ الحكاية برؤية أرنب، غير متوقع، أبيض اللون، تختلط عيناه بلون قرنفلي، يحمل ساعة ويرتدي معطفاً حسن الهيئة، ينطلق مسرعاً شاكياً، بصوت عالٍ، تأخره عن موعد ينتظره. تندفع أليس وراءه وتسقط في حفرة عميقة تحتشد بمخلوقات أكثر غرابة من الأرنب الأبيض، حيث تلتقي بسلحفاة زرقاء تدخن «نرجيلة»، وأطفال تحوّلوا إلى خنازير، وقطط غاضبة الوجوه تلاشت رؤوسها، وصانع قبعات مجنون يتحدث مع الزمن. يعقب العالم البليد عالم تمتزج فيه المتعة بالخطر، وينتشر فيه «ما لا يعرف»، سائلاً الإنسان أن يتخفف مما عرفه، وأن يضع عقله «القديم» جانباً، بل أن ينسى ذاته ويسأل «من أنا؟»، ذلك أنه كان يحاور، في زمن سبق، أشياء يعرفها، قبل أن يسقط في عالم عميق يجهله، يقنعه أن الجهل «القديم» لا يحسن طرح الأسئلة على عالم لم يألفه، ولا يعطي إجابات إلا إذا وقع السائل على مرشد حكيم. ولكن من أين يأتي هذا المرشد الواضح في عالم سمته الأولى والأخيرة «الغريب»، الذي يغسل ذاكرة الإنسان من معارفه، ومّما توقّع أن يعرفه؟ كما لو كان «الجهل» شرط الدخول إلى عالم معرفة غير مسبوقة. لا غرابة ألا تهرع أليس، في بداية الحكاية، وراء الأرنب المندفع وراء موعد تأخر عنه، بل وراء المغامرة في ذاتها، التي تعيد تعريف الجهل والمعرفة. شيء قريب من فلسفة نيتشه، الذي رأى أن السعي وراء الحقيقة، يحجب «جهلاً ضرورياً»، يصبح معنى الحقيقة من دونه خاوياً. على الإنسان أن يدع الأشياء التي تعرّف عليها خارجه، إذا أراد أن يقع على معرفة جديدة. اندفعت أليس وراء المغامرة، مبتعدة عن واقع تعرفه إلى حفرة لا تعرف عن حدودها شيئاً، أرادت أن تسير وراء ما لا تعرفه، ذاهبة إلى تجربة عنوانها المخاطرة، تتضمن الاندفاع والاختيار والاقتناع بأن الاعتراف بالجهل جسر إلى حقائق محتملة. مايزت أليس، الراغبة بالمعرفة، بين فعل «وجد»، الذي هو جزء من حياتها اليومية، و»اخترع»، الذي يلائم إنساناً شديد الفضول، مرشده داخله، ولا يلتقي بمرشد صالح إلا صدفة. احتفظت بجهلها، وتركته وراءها، منجذبة إلى حياة تأخذ معناها من المغامرة، يتلاشى فيها الفرق بين الواقع والوهم، ويأخذ فيها العقل الحر مكان العقل المقيّد، وتصبح فيها «الأعماق المظلمة» جزءاً من عملية المعرفة، بل يغيب فيها الفرق بين الممكن والمستحيل. تحرّرت أليس من المعنى القديم للمعرفة، وهي تتحرّر من حياة الرتابة واللامبالاة. كانت في تحرّرها ترى إلى آفاق منعشة، وتستولد دلالات الأشياء من تجربتها الخاصة، من تلك الحكاية المصاغة من يوم بليد وأرنب ينظر إلى ساعته وحفرة تقارب «أربعة آلاف ميل» عمقاً. كما لو كان السقوط في «الأعماق» شرطاً من شروط المعرفة، وأن حكاية الأرنب والحفرة مدخل إلى تهميش «جهل قديم». والأمر، في وجهيه، لصيق بالتجربة وبوجهة نظر الإنسان الذي يقوم بها. حال أليس وهي تجد «فطراً برياً» يساوي قامتها علواً، تنظر تحته وحواليه وتريد أن ترى أعلاه، ناظرة إليه وإلى نفسها في آن مقررة، من دون أن تدري، أن معناه يأتي من الناظر إليه. طرحت في ما رأته سؤال «الحقيقة» بعيداً عن ميتافيزيقا الفلاسفة، التي تعطي ما هو موجود تأويلاً واحداً وحيداً وتقرّر أن حقائق الأشياء مستقلة عن الإنسان، وأن لها دلالات ثابتة، قافزة فوق عالم محكوم بوجهات نظر مختلفة. حين تمد أليس قامتها لترى ما هو فوق «الفطر»، ترى سلحفاة زرقاء، تباغتها بالسؤال التالي: من أنتِ؟ بيد أنّ الإجابة تأتي متلعثمة متباطئة، ذلك أن أليس تعرف ما كانته في الصباح قبل السقوط في الحفرة، وأنها قابلت بعد السقوط أشياء كثيرة كانت تجهلها. حين تعيد السلحفاة السؤال، تعترف أليس بأنها «ليس لديها ما تقوله» باستثناء: أنا لست نفسي. أفضت الرحلة إلى أزمة في الهوية، لا تتجاوزها أليس بتذكر ما كانت عليه، بل باعتراف صريح: «لقد كنت شخصاً مختلفاً». غيرت رحلة المعرفة مقاييس الأشياء، وجعلت الذات التي تعرّفت إلى ما لا تعرفه لا تعرف ذاتها. كما لو كان اطمئنان الذات السابق اطمئناناً إلى الجهل المستقر فيها. يفترض الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن البشر جميعاً يواجهون أزمة هوية، تشبه أزمة أليس، فلا وجود «لذات» حقيقية، ولا «لأنا» فعلية باستقلال عن التجربة: «نحن نتغيّر على الدوام ونصبح بشراً من نوع جديد. فمفاهيم «الأنا» و «الذات» ساكنة وأقرب إلى بنى عقلية ثابتة، وهي مجرد حكايات». فكما أنه لا ضوء وراء المصباح، فما يوجد هو المصباح لا غير، فلا وجود لذات وراء أفعال الذات، ولا وجود لفرق بين الوجود والصيرورة. يساوي خطأ الذات خطأ الاعتقاد بوجود «الفطر البري»، بمعزل عن النظر إليه. ينطوي الاعتقاد بوجود ذات ثابتة على وهم الإنسان المأساوي بأنه لا يتغيّر الذي يصدر، كما يرى نيتشه، عن عقيدة «الروح» الخالدة، التي تستمر في الحياة، بعد رحيل صاحبها عن الحياة. في مسار أليس الحكائي، المتحول من مشهد إلى آخر، ما يذكّر بالأفكار الحرة، التي تصوغ تجاربها آفاق منظورها إلى الحياة، ولا تعتقد أنها تعيش ساكنة إلى جوار أشياء ساكنة، ولا تحاول فرض ما تراه على الآخرين. وما الإبداع، أو الخلق كما يقال، إلا التعرّف إلى أفق نظر، أو الوقوع على نظر يفصل بين الوهم والذات التي عليها أن «تحاصر» وهمها... يعتمد الأمر على التحكّم بوجهة النظر، التي يمكن أن تغيّر معنى العالم. لا شيء يوجد خارج طريقة النظر إليه. حين تلتقي أليس بقطة على شجرة تسألها: «هل يمكن من فضلك، أن ترشديني إلى الطريق الذي يجب أن أسلكه من هنا؟ تجيب القطة: هذا يعتمد كثيراً على المكان الذي أنت ذاهبة إليه. يعتمد حال الإنسان على المعنى الذي يتطلع إليه، فمصدر المتاعب كامن في البحث عن معنى في موقع لا معنى فيه. وما دور الفن، كما يرى نيتشه، إلا الإشارة إلى طريق يفضي إلى المعنى. وهو ما أعطى الفن قيمة عليا في المأساة اليونانية، التي رأت في الإنسان باعثاً على النظام ومرشداً إلى الغايات أو إلى السديم والخواء. يستنهض الفن، كما تأمله لويس كارول، الشكل والوضوح والفردية والتجربة الجمالية، وهو الباعث على الحلم في مواجهة الحياة اليومية السائرة من سديم إلى آخر. وما رحلة أليس إلا صورة عن هذا الحلم، الذي يبدأ بما هو صعب، ويشير إلى متعة محتملة. تقول أليس: «أكاد أرغب ألا أكون قد سقطت في حفرة الأرنب، مع ذلك، ولذلك، فإن هذا النوع من الحياة، كما تعلم، مثير للفضول. عندما كنت أقرأ حكايات متخيلة، كنت أتصوّر أن مثل هذه الأشياء لا تحصل أبداً. والآن ها أنا في منتصف حكاية منها...». يحرّر الفن الإنسان، تقريباً، إن جاء به عقل متحرر، كعقل لويس كارول، الذي أمتع الأطفال بحكاية فلسفية المعنى، جميلة القراءة، يحتفل كثر اليوم، بمرور مئة وخمسين عاماً على ميلادها. هذا تعليقٌ على كتابٍ عنوانه: «أليس في أرض العجائب والفلسفة» وهو كتاب جماعي أشرف عليه الأستاذ الجامعي ريتشارد برايان ديفيس وصدر في نيوجرسي.