هل باتت قرغيزستان على مشارف حرب أهلية؟ أدت أعمال العنف التي اندلعت في أوش، ثاني أكبر مدينة في قرغيزستان التي تقع في وادي فرغانة، بين القيرغيزيين والأوزبكيين إلى وقوع مئات القتلى والجرحى. ويبدو أنّ الحكومة الانتقالية في مدينة بشكيك برئاسة روزا أوتونباييفا غير قادرة على احتواء الاضطرابات، ما دفعها إلى مطالبة روسيا بالتدخّل. وفي حال لم يتمّ وضع حدّ للنزاع الإثني الداخلي، فلن تواجه قرغيزستان خطر الانهيار فحسب بل قد يتزعزع الوضع الأمني برمته في آسيا الوسطى أيضاً. تمّت الإطاحة بحكومة كرمان بك باكاييف إثر تظاهرات مناهضة للحكومة انطلقت من مدينة تالاس الشمالية في السادس من نيسان (أبريل) 2010 وتوسعت إلى العاصمة بشكيك في اليوم التالي. فتجمّع عشرات الآلاف من المتظاهرين في ساحة ألاتو في وسط بشكيك للتعبير عن عدم رضاهم عن السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومة وعن سخطهم حيال انتشار الفساد. حاولت قوى الشرطة قمع التظاهرة، ما أدى إلى مقتل حوالى 84 شخصاً. غير أن أعمال العنف هذه لم تكن كافية لحماية النظام. ففي الليلة نفسها، رحل باكاييف عن العاصمة وتوجّه إلى مسقط رأسه في الجنوب وبعد أسبوع رحل إلى الخارج. ونتج من أحداث شهر نيسان مستوى جديد من العنف السياسي الذي لم تشهد له البلاد مثيلاً من قبل، الأمر الذي عزّز التوقعات القاتمة في شأن مستقبل هذا البلد. وبعد أحداث نيسان، اندلعت صدامات إثنية حادّة. وفي 20 نيسان، تمت مهاجمة أتراك آسيا الوسطى في قرية ماييفكا بالقرب من العاصمة بشكيك، ما أدى إلى مقتل وجرح العديد من الأشخاص وإلى حرق المنازل. وفي 14 أيار (مايو)، انتقلت الصدامات الإثنية الداخلية إلى مدينة جلال آباد الجنوبية حيث أدت الصدامات بين القيرغيزيين والأوزبكيين إلى مقتل شخصين وجرح 60 شخصاً. وكان باكاييف يحظى بدعم كبير في مدينة جلال آباد بما أنّ مسقط رأسه يقع في هذه المحافظة. تقع جلال آباد على غرار أوش في وادي فرغانة وهو كيان جغرافي تتقاسمه قرغيزستان وأوزبكستان وطاجكستان مع العلم أنه يضمّ 20 في المئة من مجمل سكان آسيا الوسطى وأنه يعتبر منطقة نزاعات حيث تفاقمت المشاكل الاجتماعية المتراكمة وذلك نتيجة قيام حدود دولية صارمة بين الدول الثلاث. وإثر انهيار الاتحاد السوفياتي، خشي عدد كبير من المراقبين من أن تصبح آسيا الوسطى منطقة نزاعات أو حتى منطقة عنف كبير كما حصل في البلقان والقوقاز. تقع منطقة آسيا الوسطى السوفياتية بمحاذاة أفغانستان حيث أدى الاجتياح السوفياتي لها على مدى عقد إلى بروز ثقافة عنف وإلى توافر الأسلحة. كما أثارت الصدامات الإثنية في أوزباكستان وقرغيزستان خلال السنوات الأخيرة للدولة السوفياتية مخاوف كبيرة. فحصلت مذابح إثنية في أوزباكستان في وادي فرغانة استهدفت أتراك آسيا الوسطى بينما وقعت في قرغيزستان صدامات إثنية بين القيرغيزيين والأوزبكيين. لكن، كانت طاجيكستان البلد الوحيد في آسيا الوسطى الذي شهد انهياراً للدولة وحرباً أهلية من عام 1992 لغاية عام 1997. وكانت المرحلة الأعنف عام 1992، حين ناضلت النخب الإقليمية من أجل الاستحواذ على السلطة مختبئة خلف الشعارات العقائدية (المعارضة الإسلامية الديموقراطية ضد المحافظين الشيوعيين). لكن برهنت معظم الدول الأخرى أنها قادرة على مقاومة الحرب الأهلية. ويعزى ذلك إلى سببين: أولاً، لم تنمُ التيارات الوطنية لتتحدى حدود الدولة الموجودة، وثانياً برهنت الطبقة الحاكمة أنها قادرة على المحافظة على السلطة. في الواقع، عمل اثنان من الرؤساء في آسيا الوسطى أميني سرّ في الحزب الحاكم المحلي في الحقبة السوفياتية وهما الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نازارباييف ورئيس أوزباكستان إسلام كاريموف. وفي بداية التسعينات، برزت قرغيزستان على أنها «نموذج» للإصلاحات. وأطلقت القوى الخارجية على قرغيزستان اسم «واحة الديموقراطية» في منطقة تسيطر عليها الغرائز المحافظة. وكان رئيس قرغيزستان الأوّل عسكر أكاييف، وهو عضو في أكاديمية العلوم، قادراً على جذب المانحين الغربيين من خلال سياساته الاقتصادية الليبرالية وخطابه الديموقراطي. لكن، في غضون سنوات قليلة، اختفت الروح الإصلاحية. ولم يؤسس أكاييف لدولة بوليسية على غرار ما فعل جيرانه، إلا أنّ الفساد استشرى إلى جانب تحكّم «الأسرة» الرئاسية بالتجارات المربحة. وسادت الانتخابات أعمال تزوير فيما تعرّض كلّ من الأحزاب المعارضة والصحافيين النقاد إلى إساءات من السلطات. تملك قرغيزستان نقاطاً مشتركة مع طاجكستان أكثر من أي دولة محاذية لها. فكلاهما محاط باليابسة تماماً وطبيعته جبلية. تقسّم سلسلة جبال بامير في طاجكستان وسلسلة جبال تيان شان في قرغيزستان هذين البلدين إلى واديين أساسيين وإلى عدد من الوديان الصغيرة، الأمر الذي يساهم في إنشاء هويات محلية قوية. يملك البلدان ثروة مائية إلا أنهما يفتقران إلى الطاقة ويعتمدان على النفط والغاز اللذين يستوردانهما من أوزباكستان أو كازاخستان. كان البلدان يعتمدان على إمدادات الدولة الكبيرة في الحقبة السوفياتية مع العلم أن المساعدة الدولية قد حلّت محل جزء صغير منها. كانت طاجكستان أفقر جمهورية في الاتحاد السوفياتي تليها قرغيزستان. بعد أن وضعت معاهدة السلام التي عُقدت بين السلطات في طاجكستان وبين حزب النهضة الإسلامي في كانون الأول (ديسمبر) 1997 حدّاً للحرب الأهلية في هذا البلد، قامت مجموعة من الناشطين الإسلاميين القادمين من الجزء الأوزبكي في وادي فرغانة بإنشاء تيار متشدد جديد يدعى التيار الإسلامي في أوزباكستان. وعمل هذا التيار من قواعده الجبلية التي تقع في المنطقة الحدودية لطاجيكستان وقرغيزستان وبدعم لوجيستي من حركة «طالبان» الأفغانية، على شنّ غارات بين عامي 1998 و 2000 داخل أوزباكستان بهدف الإطاحة بنظام كاريموف. وعلى رغم أنّ معظم الناشطين الجهاديين الأوزبكيين قد تلقوا ضربات قوية إثر الهجوم الأميركي على حركة «طالبان»، وعلى رغم تشتت معظمهم وانضمام مجموعة متشددة منهم إلى حركة «طالبان» وإلى تنظيم «القاعدة» على الحدود الشماليةالغربية لباكستان، من غير الواضح ما إذا تمكنوا من المحافظة على القدرات اللوجستية داخل وادي فرغانة. ولا يعني إضعاف التيار الإسلامي في أوزباكستان نهاية النشاط السياسي الإسلامي في آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فتنقل وسائل الإعلام المحلية باستمرار أخبار تتعلق باعتقال ناشطين تابعين لحزب «التحرير». وأظهرت ثورة السوسن التي اندلعت في قرغيزستان عام 2005 والتي أدت بعد يوم طويل من الصدامات في العاصمة إلى الإطاحة بإدارة عسكر أكاييف، هشاشة مؤسسات الدولة. وعلى رغم اعتماد عسكر أكاييف سياسة محافظة في النصف الثاني من ولايته الرئاسية إلا أنه لم يلجأ إلى استخدام العنف ضد شعبه ولم يعزّز قدرة الدولة على ممارسة القمع. ويبدو أن باكاييف قد استخلص العبر من عام 2005 وكان مصمّماً على استخدام القوة لقمع أي محاولة للإطاحة بنظامه. وعلى رغم الأوامر الصادرة لإطلاق النار على الحشود وعلى رغم وقوع 84 قتيلاً وجرح المئات من الأشخاص، لم ينجح نظامه في البقاء فترة أطول من نظام أكاييف. ففي الحالتين، كانت ثورة يوم واحد كافية لتغيير النظام. والخلاصة من ذلك هو أنّ الدولة القيرغيزية ضعيفة منذ زمن، الأمر الذي يسبب قلق دول آسيا الوسطى الأخرى. ويخشى الجيران في شكل أساسي من انتشار حسّ الثورة في صفوف شعوبهم المحرومة أحياناً من الحقوق السياسية التي تعتبر أساسية في البلدان الأخرى. لهذا السبب، قامت كلّ من أوزباكستان وكازاخستان بإغلاق حدوديهما على مدى أسابيع بعد الإطاحة بحكومة باكييف. قد يفرض عاملان أساسيان مخاطر أمنية على المنطقة بأكملها. أوّلاً، في ظلّ ارتفاع الشكوك، قد تتحوّل التوترات الإثنية إلى نزاع مفتوح. ثانياً أظهرت الصدامات التي حصلت بين الأوزبكيين والقيرغزيين في 19 أيار والتي أدت إلى مقتل شخصين وجرح 70 آخرين مدى جدية هذا الخطر في جنوب قرغيزستان. ويشعر الأوزبكيون في جنوب قرغيزستان الذين كانوا في الماضي سكان مدينة أوش أو أوزكن أو جلال آباد بتعرّضهم لنوعين من الضغوط. فمن جهة طوّر القيرغيزيون سياسة التمييز، فيما تشكّك أوزباكستان من جهة أخرى بولائهم وتتهم أحياناً الشعب الأوزبكي في الجنوب بإيواء الناشطين الإسلاميين المتشددين. وقد يساهم العنف العرقي في جنوب قرغيزستان الذي يشمل المجتمع الأوزبكي هناك في تعزيز القومية الأوزبكية على المدى الطويل وهي المجموعة الإثنية المسيطرة في المنطقة برمتها والتي تستطيع الاعتراض على حدود الدولة الحالية وعلى شرعية الدول التي نشأت في الحقبة السوفياتية مع العلم أن المفكرين القوميين الأوزبكيين قد طرحوا هذه الاعتراضات قبل أن يقوم نظام إسلام كاريموف بتهميش حزبي «برليك» و «إيرك» الديموقراطيين الوطنيين المعارضين في أوزباكستان في بداية التسعينات. أخيراً، تمّ استخدام المناطق الجبلية في جنوب قرغيزستان لا سيما في محافظة باتكين كملجأ آمن للمجموعات المسلحة الإسلامية في نهاية التسعينات لشنّ اعتداءات في عمق أوزباكستان. ويطرح توسّع نشاط حركة «طالبان» في أفغانستان وباكستان ومع ارتفاع اعتماد قوات حلف شمال الأطلسي على خطوط الإمدادات التي تمرّ عبر قرغيزستان أو طاجيكستان أو أوزباكستان، سؤالاً: هل ستكون آسيا الوسطى ساحة جديدة للمواجهة؟ قد يؤدي ضعف دولة قرغيزستان الواضح في السيطرة على أراضيها في زمن تباشر فيه حركة «طالبان» أنشطتها من جديد إلى إيقاظ الخلايا النائمة من الناشطين الإسلاميين في وادي فرغانة الذي يعتبر قلب آسيا الوسطى المنقسم. * كاتب لبناني من أصل أرمني، متخصص في شؤون القوقاز ووسط آسيا