1940) واحداً من كبار نقاد الأدب والفن في القرن العشرين، نالت أعماله النقدية في الأدب والفن والثقافة اهتماماً واسعاً تخطى ألمانيا إلى العالم بأسره، مع أنه عاش حياته القصيرة من دون أن يحصل على شهرة يستحقها على مؤلفاته القيمة، وأنهى حياته القصيرة بالانتحار عند الحدود الفرنسية - الإسبانية في 25 أيلول (سبتمبر 1940) بسبب هلعه الشديد من الوقوع في أيدي الغستابو الألمان وانغلاق جميع نوافذ الأمل في وجهه. كان بنيامين أحد رواد مدرسة فرانكفورت النقدية، لكنه اختلف مع بعض روادها الأوائل، خصوصاً أدورنو حول أزمة الثقافة في المجتمع البرجوازي ودور أو وظيفة الفن فيه. فقد رأى أعضاء مدرسة فرانكفورت، أن الفن يعبر عن أيديولوجيا وله وظيفة سياسية هي المصالحة بين النظام القائم والجماهير. ووفق أدورنو، فإن الفن الجماهيري هو «ثقافة مصنعة» لا تتحكم بالجماهير عفوياً فحسب، وإنما تشيّئ ما يظهر منها كثقافة، وليس كحقيقة وواقع. يعود هذا الخلاف إلى النظرية الماركسية في الأدب والفن التي ترى أن الفن والأدب الناتجين في أي تنظيم اجتماعي عفا عليه الزمن يمكن أن يظلا يمنحاننا متعة جمالية ويظلا معياراً ومثالاً أعلى يستحيل بلوغه. وقد طرحت الواقعية الاشتراكية الأسئلة الأساسية عن تطور الأدب والفن وما تعكسه الثقافة من علاقات طبقية. وتحيلنا نظرية الواقعية الاشتراكية إلى مفهوم «الثقافة الشعبية»، إلى جانب فكرة الطبيعة الطبقية للفن باعتبارها خاصية أساسية مطلوبة في الفن والسياسة معاً، فيحقق العمل الفني لكل فترة هذه الخاصية حين يعبر عن مستوى عال من الوعي الاجتماعي بالأوضاع الاجتماعية السائدة في عصر معين ويعطيها بعداً فيه إمكانية التقدم الاجتماعي. غير أن النظرية النقدية التي اقترن اسمها بمعهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي رفضت الواقعية الاشتراكية، ووضعت النظرية النقدية كبديل أرحب من التحليل الاجتماعي الذي يتضمن عناصر هيغلية وماركسية وفرويدية. ارتبط اسم بنيامين باسم أدورنو لفترة محدودة، ثم نظر بنيامين إلى الثقافة الحديثة نظرة مناقضة لنظرة أدورنو، وذهب إلى إن الاختراعات الحديثة في الفنون والسينما والإذاعة قد أسهمت بعمق في تغيير مكانة «العمل الفني»، فإذا كان أدورنو قد رأى في ذلك انتقاصاً من قدر الفن نتيجة معاملته معاملة السلعة التجارية، فإن بنيامين ذهب إلى أن وسائل الاتصال قامت بفصل الفن – نهائياً- عن مجال «الطقوس المقدسة» وفتحت أبوابه على السياسة. كما اختلف بنيامين مع أدورنو في نقطة أخرى هي الموسيقى، التي اعتبرها قوة دعائية نقدية. فقد ذكر أدورنو، بأن بنيامين لم يكن مولعاً بالموسيقى منذ سنوات طفولته الأولى. ومن يقرأ كتابات بنيامين يلاحظ موقفه من الموسيقى وبصورة خاصة في مقال له حول «المؤلف كمنتج» الذي أظهر بوضوح تأثره ببرشت حيث قال «وأن تضيف إلى الموسيقى كلمات»، وهو رأي يتضمن معنى سياسياً واضحاً. كما أن مفهوم» الفن الجماهيري» عند بنيامين يكشف في الواقع عن تأثره بآراء برشت، الذي ارتبط معه بصداقة وطيدة، واعتبر أعماله المسرحية من أهم الأعمال الفنية وأكثرها تاثيراً في الجماهير، بالرغم من خيبة أمله من الستالينية، التي دفعته أخيراً إلى التمييز بين الماركسية والستالينية، على غرار ما فعل أعضاء مدرسة فرانكفورت. رأى بنيامين أن الماركسية التقليدية «تتصور العمل مجرد تقدم للسيطرة على الطبيعة وليس تراجعاً اجتماعياً، وقد برهن ذلك بالملامح التكنوقراطية التي انتعشت في ظل الفاشية. «فالعمل ينظر إليه بارتياح ساذج دوماً، مع أنه يتعدى استغلال الإنسان للطبيعة إلى استغلال الإنسان للإنسان نفسه». ومع خيبة أمل بنيامين نفسه من صناعة السينما، فإنه بقي متفائلاً بوظيفة الفيلم الثورية، وكتب مرة أن إعادة إنتاج العمل الفني ستغير العلاقة بين الفن والجماهير، مثلما عمل بيكاسو وشارلي شابلن، اللذان تميزت أعمالهما بمضامين ثورية ونقدية. ومع أنه اعتقد بأن المواقف النقدية والسمعية تتداعى معاً، فقد دعا، في الوقت ذاته، إلى «تسييس اشتراكية الفن كجواب على فاشية تجميل السياسة». وفي مفهومه لجدلية الصورة وروح العصر، قال بنيامين «إن الجمال الخالد لا يسفر عن وجهه إلا إذا تنكر بثوب العصر»، متأثرا ببودلير. وبهذا وضع الحديث تحت شعار الاتحاد بين الجوهري والعرضي، وهو السمة الحاضرة التي تربط بين الفن والموضة والجديد من جهة، وبين نظرة الشخص المعدم، العاطل عن العمل والعبقري والطفل، الذي لا تتوافر له الحماية الكافية التي من الممكن أن تثيرها أساليب الإدراك التقليدية، من جهة أخرى. وكان هابرماس أشار إلى هذه العلاقة بقوله: إذا اعتقد بودلير بأن اجتماع الزمن والأبدية يتحقق في الإنتاج الأصيل، فإن بنيامين حاول نقل هذه التجربة من المستوى الجمالي إلى علاقة في المستوى التاريخي فابتكر مفهوم «الزمن الحاضر» وأدخل فيه شذرات من الزمن المسيحي أو «الزمن الغابر» الذي أصبح شفافاً حيث تمكن رؤيته في مظاهر الموضة، التي تذكرنا بالماضي. كما عارض بنيامين فكرة «الزمن المنسجم» والفارغ أو المملوء بفكرة التقدم التي تميز النظرية التطورية، ولكنه يعارض في الوقت ذاته، حبس التاريخ في المتحف وتحييد المعايير التي تحدثها التاريخانية، وهو بهذا يبرز استمرارية التاريخ ولا يريد وقف مسيرته. إن مفهوم «الزمن الحاضر» عند بنيامين هو مزيج فريد من السريالية والتصوف المتجذر في الماضي، لأن انتظار الجديد المتوقع لا يتم إلا بفضل تذكر الماضي المقموع، وما يتحكم في فهم الماضي إنما هو أفق مفتوح على المستقبل، وهو أفق التوقعات التي يحددها الحاضر. أما عمل التاريخ فيتحدد بمقدار ما يتراكم من خبرات وتجارب ماضية ضمن منظور المستقبل. وبهذا يصبح الحاضر الحقيقي مكان استمرار الموروثات المتجددة. ولا يوضح بنيامين عمل التاريخ ولكنه يرتاب من التراث الثقافي المستمر الذي سيكون ملك الحاضر، وفي الوقت ذاته يسند إلى الحاضر المتوجه نحو المستقبل مهمة التعايش معه واستذكار ماضٍ يتوافق معه فيمكن تحقيق التوقعات بفعل «أمل منقذ» بالتغير نحو الأفضل. والحال، أن الحاجة إلى الخلاص إنما تذكرنا بفكرة التصوف الدينية التي تعتبر الناس مسؤولين عن مصير الإنسان وحريته، وهي أفكار ليست سوى نوع من الحنين إلى الماضي وإلى الطقوس الدينية التي تربط بنيامين بأيام طفولته الأولى.