منذ بدأت مباريات كأس العالم والمربع الأخضر مزروع في كل بيت، هدأ الناس قليلاً، الصراخ الوحيد الذي تسمعه هو صراخ المذيع كلما اقتربت كرة من مرمى الهدف. تحلّق الناس فرادى وجماعات حول شاشة لا تبث سوى صورة لشعوب اجتمعت لكي تلعب، وهذه الشعوب حين أرادت أن تلعب اخترعت كرة مدوّرة ترميها وتجري وراءها. يقال إن الصينيين هم أول من اخترع الكرة، وقد كانت كرتهم مصنوعة من الجلد ومحشوة بالقنب، أما المصريون القدماء فقد صنعوها من القش أو من قشور الحبوب، وكان الإغريق يستخدمون مثانة الجاموس منفوخة ومخيطة، أما الكرة المطاطية فلم تُعرف إلا في أواسط القرن العشرين فقط بفضل عبقري أميركي اسمه تشارلز غوديير من أميركا الشمالية، ومنذ عام 1938 فقط صار بالإمكان ضرب الكرة بالرأس من دون خوف من الأذى الذي يسببه الرباط المستخدم في ربط الكرة، وفي مباريات كأس العالم الحالية أطلقت «اديداس» كرة بمواصفات عجيبة تتمكن من قطع مسافة أطول وتسديد أهداف. كانت كرة القدم هي لعبة الفقراء والمتسكّعين. وفي مسرحيات شكسبير كانت «يا لاعب الكرة» شتيمة بين الأبطال، ثم صارت لعبة المحترفين الأغنياء والمشاهير. أفكر وأنا أشاهد كرة القدم اليوم كيف كانت هذه الكرة وكيف تحولت، فقديماً كانت كرة القدم مجرد لعبة اخترعت من أجل المرح وبلا قوانين، إذ كان اللاعبون يتنافسون في جماعات كبيرة وكان المرمى في الوسط، ولم يكن هناك تحديد للاعبين ولا لمدة اللعب ولا لشيء آخر، أي كان اللاعبون يلعبون حتى يتساقطوا من التعب، أو حتى «يؤذن عليهم العشاء» وأثناء اللعب كان اللاعبون يستطيعون التحدث مع بعضهم ويدخنون حين تكون الكرة بعيدة. اليوم قطعت الكرة رحلة طويلة من المتعة إلى الواجب، وتحولت إلى صناعة للربح ومنع الطرف الآخر من الفوز، وأخذت هذه الصناعة تتعقد حتى صارت صناعة دول لا صناعة أفراد، وبلغ من تعقيداتها أن صارت الدول تخسر علاقاتها الديبلوماسية بسبب كرة! أو تقاطع شقيقة بسبب لعب، وتطلق الأحكام على الشعوب بسبب سلوك جمهورها أثناء لعب الكرة. استضافتها في جنوب أفريقيا بعثت حكاية طريفة تقول إن نيلسون مانديلا قد وحّد شعب جنوب أفريقيا بعد تاريخ معبأ بالعنصرية بين البيض والسود عن طريق فريق كرة القدم، فحين تشكّلت أول حكومة سوداء كان ضمن أول قراراتها التخلص من فريق الكرة الأبيض وألوانه، لكن مانديلا أصرّ على بقاء هذه الفريق احتراماً لمشاعر شعبه من البيض الذي قد يفهم أن الحكومة السوداء تنتقم من الماضي وتتخلّص من هذه التركة التي تسببت في آلام السود، لكن نيلسون مانديلا جعل هذا الفريق الأبيض وزيه البرتقالي استمراراً لوحدة الشعب الأبيض والأسود فنجح. كرة القدم هي مجرد لعبة ديموقراطية، فمن دونها يكون الناس مثقفين ومتعلمين وسياسيين، وعمالاً، ونساء ورجالاً، وصغاراً وكباراً، وأمامها يصبح الناس مجرد جمهور كرة. [email protected]