أول مرة التقيت الصحافية الأميركية اللبنانية الأصل هيلين توماس، كانت في جدة أثناء زيارة وزير الخارجية هنري كيسنجر للسعودية عام 1973. ومع أن الوفد الإعلامي الأميركي كان يضم مراسلات عدة، إلا أن الاهتمام المميز الذي خصّ به كيسنجر عميدة صحافيي البيت الأبيض أثار انتباه الجميع. مع العلم أنها لم تعفه من أسئلتها المحرجة، ولم توفر مساعده جوزيف سيسكو من الانتقاد اللاذع. منذ أسبوعين شهد العالم استقالتي رئيس ألمانيا هورست كولر ورئيس حكومة اليابان يوكيو هاتوياما، إلا أن استقالة هيلين توماس من مهمة حملتها منذ عام 1961، كانت أشد وقعاً وأوسع تغطية. ويعزو المحللون سبب الضجة الكبرى الى جرأتها في طرح حل معارض لكل الحلول. ذلك انها اعتبرت في جوابها على سؤال مثير للجدل: «ان الشعب الفلسطيني محتل، بينما الأرض أرضه. وما على الإسرائيليين سوى العودة الى أوطانهم في بولندا وألمانياوالولاياتالمتحدة». ومنعاً لأي تفسير قد يستغله «اللوبي اليهودي» ضد الرئيس باراك أوباما، أعلن الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض روبرت غيبس: «أن تصريح توماس مسيء للغاية، ويستحق التوبيخ. ولكنه بالتأكيد لا يعكس رأي الإدارة الأميركية». وكان هذا التعليق كافياً لإزالة التغطية الرسمية التي خصّها بها رؤساء البيت الأبيض، بدءاً بالرئيس جون كينيدي... مروراً بالرئيس نيكسون الذي رافقته الى الصين... وانتهاء بالرئيس أوباما الذي غنى لها «هابي بيرثداي» في مناسبة عيد ميلادها الأخير (89 سنة). وربما كان أوباما هو الرئيس الوحيد من بين عشرة رؤساء عرفتهم هيلين، أيدته خلال المعركة الانتخابية بسبب إعجابها بمشروعه للتأمين الصحي. ولكن دعمها الإعلامي لم يعفه من صدمة أول سؤال في أول مؤتمر صحافي عقده: «حضرة الرئيس، هل تعرف دولة في الشرق الأوسط تملك سلاحاً نووياً؟!». واستعان أوباما بكل البهلوانيات اللغوية التي يتقنها كي يتفادى الجواب الصحيح الذي يعرفه. وعندما انتهى المؤتمر عاتبها الرئيس على سؤالها المحرج. وقالت له بضحكة مجلجلة: «أردت بسؤالي اختبار جرأتك»! وكان من الطبيعي أن يحدث تصريحها العفوي ردود فعل متباينة بسبب صراحته. وتساءل كثيرون ما إذا كان كلامها الأخير يعبّر عن اقتناعها الشخصي بعد نصف قرن من الجهد الإعلامي، أم انه زلة لسان، كما فسرته الصحف الأميركية؟ اللوبي اليهودي فضل الحل الأسهل الذي أراحه من إحراجات العميدة العنيدة، معتبراً أن الاستقالة هي خير دليل على الاعتراف بالخطأ. وهكذا فسر الإعلام الأميركي عبارة هيلين توماس بأنها «لحظة ضعف»، تماماً كالتفسير الذي قدمه يوم انتقد مارلون براندو هيمنة اليهود على صناعة السينما في هوليوود... أو يوم عرض المخرج ميل غيبسون فيلمه «آلام المسيح» كاحتجاج على تبرئة اليهود من صلب المسيح! بقي أن نذكّر بالاقتراح الذي قدمته الكاتبة ابنة طرابلس الفيحاء نهلة الشهال، حول ضرورة تكريم هيلين توماس، ابنة المغترب الطرابلسي جورج انطونيوس. فقد اقترحت إطلاق اسمها على مؤسسة تربوية أو موقع إعلامي، أو حتى منحها أرفع وسام من قبل رئيس الجمهورية كاعتراف بالدور الذي أدته بنجاح وجرأة نادرة، خصوصاً أن سيرة حياتها منشورة في خمسة كتب من تأليفها، إضافة الى مشاركتها في أفلام عدة بينها «فهرنهايت 9/11» لمايكل مور وفيلم «دايف». تجمع غالبية أعضاء قاعة الصحافة في البيت الأبيض على القول إن دوافع الانتقام الشخصي لعبت دوراً كبيراً في صوغ جواب الناطق باسم الرئاسة روبرت غيبس. ذلك أن تعليقه لم يعكس رأي أوباما كما هو مفروض، وإنما تعدى حدود مهمته ليعلن أن تصريح هيلين لا يعبّر عن رأي الأكثرية في الولاياتالمتحدة. والثابت أن العميدة كانت تلاحقه بسؤال ملح يتعلق بقانون فيديرالي للتأمين الصحي. وبما أن غيبس كان يجهل الجواب، فقد أصرّ على النفي، في حين أصرّت هي على تلقي الجواب لأنها – كما قالت – تريد تعذيب ضميره! المستغل الآخر لتعليق هيلين كان أري فليشر، الناطق الرسمي باسم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. فقد كتب عن جوابها سلسلة مقالات يتهمها فيها بإثارة نعرات طائفية وحساسيات عرقية لكونها طالبت ب «تطهير» فلسطين من اليهود. ويعزو بعض الصحافيين أسباب استخدام فليشر لهذه اللغة الاستفزازية، الى مواقف هيلين المعارضة لحرب العراق. وهي مواقف جريئة كانت تجهر بها على صفحات الجرائد، مؤداها: «أن جورج بوش الابن هو أسوأ رئيس في تاريخ الولاياتالمتحدة». وبوحي من هذه الحملة المبرمجة، اندفعت الصحف الإسرائيلية لتهاجم «العميدة»، وتتهمها بمعاداة السامية. واستغلت صحيفة «معاريف» تصريحها لتقارنه بتصريح أحد ركاب سفينة «مرمرة» قبل أن يغتاله الكوماندوس الإسرائيلي، لأنه قال لهم: «عودوا الى أوشفيتس»، أي الى المعتقل النازي. الى جانب هذه الأزمة الإعلامية التي نفستها هيلين توماس باستقالتها، ظهرت أزمة التحقيق الدولية في شأن عملية قتل مواطنين أتراك كمشكلة جديدة تحتاج الى غولدستون جديد، مع العلم أن إسرائيل تصدت للتقرير الصريح الذي وضعه القاضي اليهودي غولدستون، واتهمته بالانحياز لأنه اتهم إيهود أولمرت ورجال بطانته بارتكاب أعمال جنائية في غزة. أثناء استقباله الرئيس محمود عباس يوم الأربعاء الماضي، وعده الرئيس أوباما بضرورة إجراء تحقيق يلبي المعايير الدولية حول الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية. ويبدو أن حكومة نتانياهو لن تقبل بأي تحقيق خارجي بدليل أن إيهود باراك اختار لجنة عسكرية للقيام بهذه المهمة المزدوجة: أي مهمة تحقيق داخلي يتعلق بقوانين الجيش... ومهمة إعداد تقرير قانوني يبرر العملية والقوة التي استخدمتها ضد «أسطول الحرية». وفي الحالين ابتعد التحقيق الرسمي عن محاسبة السلطة السياسية التي تعتبر المسؤول الأول عن العملية العسكرية. ومن أجل دعم القوة البحرية الإسرائيلية، ذكر التحقيق بعض الإخفاقات التي ارتكبها المسؤولون عن جهاز الاستخبارات «الموساد» بحيث إنهم لم يبلغوا الجنود عن وجود «أسلحة باردة» على متن السفينة «مرمرة»، والأسلحة الباردة هي من نوع السكاكين والهراوات التي استعملت، كذلك استخدم التحقيق الصورة التي نشرت في الصحيفة التركية «حريت»، وهي تظهر بعض الجنود الإسرائيليين ينزفون على متن السفينة. من جهة أخرى، اتخذ التحقيق صفة الادعاء على الحكومة التركية لأن مفتشي الجمارك في اسطنبول لم يبلغوا عن وجود سكاكين وهراوات مع بعض الركاب. أما بالنسبة الى قانونية تفتيش السفن في المياه الدولية، فقد استند التحقيق الى القوانين الصادرة عن الأممالمتحدة حول ضرورة رصد السفن التجارية وناقلات النفط قبالة «باب المندب»، أي قبل مرورها قبالة شواطئ الصومال. وقد استدعت عمليات القرصنة مراقبة متواصلة من قبل أساطيل كل الدول، كما استدعت تدخلها المسلح لصد هجمات «الإرهابيين» الصوماليين. وبناء على تلك القوانين، قامت وحدة بحرية إسرائيلية بمحاولة تفتيش روتينية للتعرف الى المواد والحاجيات المنقولة الى غزة. في حديثه الى الفضائيات، حرص وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو، على وصف عملية القرصنة الإسرائيلية بأنها 11 أيلول (سبتمبر) تركية. وبما أن أوغلو يختار كلماته بتأنٍّ ودقة، فإن اغتيال تسعة أتراك في نظره، يعادل اغتيال أعداد كبيرة. والسبب كما فسره للمشاهدين، أن بلاده نازعت الاتحاد السوفياتي مدة تزيد على نصف قرن من دون أن يسقط لها قتيل واحد، وهي لذلك ترفض التحقيق الذي أشرف عليه إيهود باراك، ولا تقبل إلا بتحقيق له طابع دولي. ومثل هذا الطلب يعكس موافقة الدول العربية والإسلامية. في تعليقها على التحقيق الذي أجرته إسرائيل حول عملية «أسطول الحرية» قالت الصحف التركية، إنه يشبه تحقيق حادثة ماغنوس جفجن! وماغنوس شاب ألماني قام عام 2002 بخطف ابن صغير لعائلة مصرفية شهيرة. وتمت عملية الخطف بنجاح كامل، وبدلاً من أن يساوم ماغنوس على رهينته ويحصل على الفدية التي يريدها، قام بخنق الولد، ثم كتب الى العائلة القلقة يطالب بفدية قيمتها مليون يورو، وتتبعت الشرطة الألمانية آثار الخاطف، ثم اعتقلته أثناء نقل الفدية. لدى التحقيق الطويل حافظ ماغنوس على صمته ورفض تقديم أية معلومات تشير الى مكان وجود الطفل. وبعد انقضاء أسبوع، قام الضابط الذي أشرف على عملية الاستنطاق بممارسة تعذيب جسدي، انتهى باعتراف القاتل. واستناداً الى المعلومات التي أدلى بها حول المكان الذي دفن فيه جثة الطفل، أدانته المحكمة بالسجن المؤبد. بعد مرور فترة قصيرة ادعى القاتل ومحاميه أن محقق الشرطة خرق القانون الذي يحظر التعذيب بغرض انتزاع معلومات بوسائل غير قانونية. وعليه استأنف الحكم أمام محكمة الاستئناف العليا في ألمانيا. وأصدرت المحكمة حكمها بتثبيت العقاب الذي فرض على ماغنوس، ولكنها شجبت خروج الشرطي عن القواعد القانونية. وكانت هذه الملاحظة بمثابة مستند اعتمد عليه القاتل لرفع دعوى أمام المحكمة الأوروبية المشتركة. وبحسب المادة الثالثة من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، قررت المحكمة المشتركة الطعن في الحكم المؤبد، وإعادة المحاكمة. وحجتها أن الاعترافات تمت تحت التعذيب، مع العلم أن جثة الطفل وجدت حيث دفنها القاتل. وفي هذا السياق، تقول الصحف التركية إن التحقيق الخاص الذي أجرته إسرائيل حول عملية أسطول «الحرية»، يشبه الى حد بعيد قرار المحكمة الأوروبية التي تجاهلت عملية القتل المتعمد، وانشغلت بقانونية التحقيق بهدف تبرئة المجرم. * كاتب وصحافي لبناني