لن يسهل نسيان الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل ضد السفينة التركية «مرمرة» في المياه الدولية للبحر المتوسط وهي في طريقها الى غزة، بل إن هذا الحدث سيبقى يحفر طويلاً في ذاكرة المنطقة، وسيستعاد في حياتها السياسية اليومية طالما بقي الحصار الإسرائيلي مفروضاً على القطاع وطالما لم يصل الشعب الفلسطيني الى حقوقه في دولته المستقلة. لكن الفارق كبير بين أن تتحول الجريمة الى مناسبة تذكارية، وبين أن تصبح محطة في سياق مختلف للمواجهة تسهم في تحريك الأزمة وتدفعها خارج نطاق المراوحة الحالية، وهذا يعتمد خصوصاً على طبيعة تطور الموقف التركي وما إذا كانت أنقرة بما تمثله من طرف إقليمي فاعل تربطه علاقات صداقة بإسرائيل ويتمتع بعضوية حلف الأطلسي ويطمح لدخول الاتحاد الأوروبي، ستكون قادرة على خرق الدوامة المفرغة، وإحداث صدمة نوعية. ذهب كثير من المحللين لحظة الاعتداء على أسطول كسر الحصار، الى اعتبار ذلك الاعتداء مجرد جنون إسرائيلي، وقال آخرون إن الجريمة إسرائيلية لكن المأزق تركي، بمعنى أن الدولة الصهيونية أرادت وضع حد للعبة تركية لا تستسيغها. فتركيا التي كانت أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل في عام 1949 ربطتها وتربطها بتل أبيب علاقات متينة سياسية واقتصادية وعسكرية، ولإسرائيل التي تجري تدريبات دورية مشتركة مع أنقرة قاعدة استخباراتية متقدمة حتى اللحظة على الحدود مع إيران، هي ذات أهمية قصوى بالنسبة إليها، خصوصاً مع تكرار الحديث عن احتمال توجيهها ضربة الى المنشآت النووية الإيرانية. لكن تركيا مالت الى سلوك سياسات مختلفة مع وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة مطلع الألفية الحالية. صحيح أنه سبق ذلك بداية تطبيع للعلاقات مع سورية، لكن بداية هذا التطبيع لم تتم تحت ضغط سوري، بل بضغط تركي ضمن معطيات قرار أنقرة في شأن حزب العمال الكردستاني، ومع تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم، انتهجت تركيا سياسة جديدة تنفتح على كل الأطراف في المحيط بما فيها إسرائيل، في استراتيجية تجعل من أنقرة لاعباً أساسياً في إيجاد حلول للمشاكل التي تعانيها المنطقة وفي استبدال النزاعات بمشاريع تعاون اقتصادي، وبدأت القضية الفلسطينية منذ تلك اللحظة تحتل موقعاً أساسياً في السياسة التركية الخارجية، وحصدت تركيا شعبية عربية كاسحة وميزان صادرات الى العالم العربي ارتفع من نحو 3 بلايين دولار في 2002 الى 25 بليوناً في 2008. كانت الوساطة بين سورية وإسرائيل الفصل الأول من الدخول التركي الى الصراع العربي - الإسرائيلي، وتخللتها ضمناً مساعٍ جانبية في الشأن اللبناني، أما الفصل الثاني فقد بدأ مع نشوب حرب غزة في نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009. حينها أوقفت أنقرة وساطتها ورفعت شعار التضامن مع الشعب الفلسطيني وفك الحصار عن القطاع، وكان على الفصل الثالث أن ينتظر الأسطول القادم من مرمريس، لتكتبه هذه المرة، إسرائيل وليس تركيا. لا شك في أن السلطات التركية كانت تعرف أن الأسطول المنطلق من أراضيها لن يلقى استقبالاً بالورود من الإسرائيليين، ومع ذلك سهلت وسمحت بانطلاقة. ولا شك في أن إسرائيل كانت تعرف طبيعة الركاب على متنه وبينهم عدد كبير من الأتراك، ومع ذلك اختارت سفينة «مرمرة» مع ما يرمز إليه الاسم وقتلت الأتراك تحديداً. فماذا جرى؟ هل كان ذلك امتحاناً للعلاقات من الجانب التركي فجاء الجواب سؤالاً فجاً من إسرائيل ل «الصديق» القادم من بر الأناضول: حددوا موقفكم هل أنتم ضدنا أم معنا؟ بديهي أن إسرائيل التي تصنف قطاع غزة إمارة للإرهاب وميناء إيرانياً، لن تقبل طواعية بخرق حصارها للأرض الفلسطينية، وبديهي القول أيضاً إن تركيا تعرف ذلك، مثلما تعرفه أي دولة في العالم، وضمن هذه الشروط فإن الصداقة التركية - الإسرائيلية تكون قد سقطت. سقطت في الامتحان التركي للمجاملات الإسرائيلية، وسقطت في الرد الإسرائيلي ليس تجاه ما تعتبره تل أبيب مساساً بأمنها فقط، بل تجاه صديق يبدو أنه يحاول خرق معايير صداقة معتادة. ومثلما انقسم الإسرائيليون بعد الصدام انقسم الأتراك. باتت جريمة المياه الدولية عنصر صراع داخلي في البلدين. إسرائيليون يبررون ويدعمون قرار ناتانياهو، وإسرائيليون يطالبون بالتحقيق. وفي تركيا أتراك يتهمون رجب طيب أردوغان بمحاولة تعزيز مكانته داخلياً وأتراك يتهمون منافسيهم... بالدفاع عن إسرائيل. أما في العالم العربي فارتفاع في منسوب الحماسة لتركيا وبيع كثيف لأعلامها ورفع لصور قادتها في التظاهرات. لقد نجحت إسرائيل في «تعريب» تركيا بينما يحن عرب كثر الى «عثمنتها». انه عدوان اسرائيلي لكنه مشكلة تركية، إلا إذا كانت موقعة المياه الدولية غير المتكافئة، نوعاً من «7 أيار» إسرائيلية - عربية - تركية - دولية سينتج منها اتفاق دوحة اسطنبولي. هنا يستدعي التحليل السياسي أحداثاً لم يتم فهمها كفاية على رغم نتائجها الواضحة، فإذا استُبعدت المقارنة، فُتحت التطورات على فصل رابع يُعلن عن قدومه هو... الفصل الإيراني الذي بدأت ملامحه تتكون بقوة في الأفق البحري الغزّاوي. * صحافي من أسرة «الحياة»