الفشل الّذي «ترتكبه» مجتمعات «الدّول» في العالم الثّالث، بما فيها سلطاتها أو أنظمتها السّياسية، ومجاميع النخب، لا يمكن رد أسبابه إلى عمق الانشغال بالسّياسة، أو مدى الابتعاد عنها، بل إلى «الفكر السّياسي» المتوارث وإرثه الأبوي والديني، والعديد من جوانبه النّظريّة تحديدا، لا سيّما تلك التي رأت في تحرّر أو استقلال بلدان وخروجها من تحت عباءة الكولونياليّة الاحتلاليّة، ما يأذن أو يسمح ببدء «التّمتّع» بثمار التّحرّر الوطني، وبناء الدّولة. إذ تحت هذه «العباءة الوطنيّة» جرى ويجري التّحكّم برقاب شعوب بأكملها، لمنعها من التّمتّع بثمار تحرّرها الوطني فعليّا، وبناء دولها وسياداتها الوطنية حيث الممارسة الهيمنيّة السّلطويّة لديكتاتوريّة الحزب الحاكم – الأحادي – أو ديكتاتوريّة الفرد أو الزعيم الأبوي؛ تحول دون انفتاح أيّة آفاق ممكنة أو محتملة؛ لتطوّر ديموقراطي واعد داخل المجتمعات الوطنيّة. وفي المجتمعات التي لم تتمكّن الديموقراطيّة من غزو قلاعها من الدّاخل، لم تستطع التّعدّديّة وثقافة التّنوّع – الديموقراطيّة بطبيعتها وطبعها – إحراز غلبتها في مواجهة سلطة الحزب الواحد، أو الأحزاب التابعة، الدّائرة في فلك «الحزب القائد»، إذ ليس في إمكان النّظام السّياسي الحاكم، إدّعاء أنّه الأقدر دائما على استنباط أو إيجاد الحلول المستعصية لمشكلات الدّاخل الوطني، حتّى الواردة مسبّباتها من الخارج، خاصّة في ظلّ هذا التّدهور والانحطاط، ليس في مؤسّسات السّلطة، بل وفي مؤسّسات أهليّة تخضع لإشراف قوى مجتمعيّة؛ منها ما هي ذات طابع ديني أو حتّى ذات سلوك سياسوي. حتّى باتت بعض القوى السّياسيّة والسّياسويّة على حدّ سواء؛ وجهان لعملة واحدة: عملة الاستبداد واحتراف تبادل المنافع، وحتّى تبادل المواقع في أروقة سلطة، حتّى تلك التي لا سلطة، أو لا تمتلك أيّ رصيد سلطوي لها. صحيح أنّ الديموقراطية ليست دائما ترياق الحلول؛ لكامل المشاكل والأزمات ومعاناة المجتمعات الوطنيّة، في غياب ممارسة ديموقراطيّة صحيحة، أو لنقل موضوعيّة، تبتعد عن المصالح والأهداف الأنانيّة الخاصّة ببعض الشّرائح أو الفئات الاجتماعيّة أو السّياسيّة، لكنّها وبموضوعيّة منارة انتظام أو السبيل النّاظم لحق ممارسة العمل السّياسي أو في صفوف المجتمع المدني والأهلي، الموازي للإطار السّلطوي النّاظم لممارسة الحكم، وفق القوانين التي يرتضيها الجميع كتعاريف خاصة بالممارسة الديموقراطيّة وأساساتها النّظريّة وفكرها الخاص على حدّ سواء. لسنا هنا بصدد تحديد ماهيّة الديموقراطيّة، أو الحكم السّليم أو الرّشيد الّذي يمكن عبر التزامها من ابتناء علاقات تسمو على الأنانيّات والنّرجسيّات القاتلة، إذ أنّ الديموقراطيّة كعمليّة ناظمة ومنظّمة تختلف في تطبيقاتها بين مجتمع وآخر، بين دولة وأخرى، وبين قارّة وأخرى، نظرا لتعدّد وتنوّع القيم والثّقافات والمرجعيّات والمصادر التي يمكن الإحالة إليها، وهي تشكّل خلفيّة التّشكّل الديموقراطي. حتّى داخل المجتمع الواحد أو الدّولة الواحدة، هناك تشكّلات وتمثّلات مختلفة، لا يمكنها اختزال الديموقراطيّة وحشرها داخل إطار من تعريف أحادي؛ ينبغي للممارسة أن تنتظم وفقه أو تنحاز إلى شكل نظري محدّد له. هنا نحن في فضاء مفتوح من الغنى التّعدّدي، أو التّعدّد الغني بمساحات مفتوحة هي الأخرى على تعاريف السّلوك النّظري، وعلى تصاريف السّلوك العملي لديموقراطيّة هي الأكثر خصوصيّة، واشدّ اتّزانا في حفاظها على خصوصيّة المجتمعات، والدّول، والسّلطات التي تنحاز إلى هذا الشّكل من أشكال الممارسة والسّلوك العملي للسّلطة، بما هي الوظيفة الخاصّة بممارسة الشّأن العام، أي بما هي الوظيفة الخاصّة لممارسة الخدمة العامّة، لصالح إفادة المجموع العام لا الشّراذم الخاصّة أو الشّرائح العليا من طبقات أو فئات أو أحزاب نخبويّة. رغم ذلك فالديموقراطيّة لا تمتلك تعاريف محدّدة وناجزة مرّة وإلى الأبد، وهي ليست ذات بُعد واحد، هو ذاك الّذي يصفها أو يوصّفها كشكل من أشكال الاستقامة المطلقة، أو يمكنها أن تنعش شعورنا وإحساسنا بتأدية الواجب دون منغّصات استرداد الحقوق الواجبة لنا، جرّاء انتخابنا أو اختيارنا ما يتوافق مع هذا الانتخاب، أو يوافق ذاك الاختيار، في إطار العمليّة الديموقراطيّة بوجهها المتصالح مع ذاته، تلك الذّات التي تحمل في طيّاتها أو في جوهرها تأويلات لا نهائيّة، هي مثل نظريّة دريدا التّفكيكيّة لا يمكن أن تحيل إلى منجزها كمنجز مطلق، كما لا يقود تحليلها إلى كونه التّحليل الأحادي، وإلاّ كانت كلّ عمليّة انتخابيّة؛ حتّى تلك التي أشدّها وضوحا وشفافية، تشهد عمق حاجتها إلى تفكيكيّة خاصّة، لا تفضي عبر تأويلاتها المتناسلة إلى انتهاء. من هنا «رواج» نظريّة أنّ العمليّة الديموقراطيّة، قد تأتي بنقائضها النّافية الإلغائيّة أو الإقصائيّة، على ما شهدنا في ثلاثينات القرن الماضي من صعود للنّازيّة الألمانيّة، عبر صناديق الانتخاب التي حكمت على العمليّة الديموقراطيّة بالإلغاء والانتهاء، ما دام «الزّعيم المُلهم» أو «القائد الضّرورة» وفق «العقائد الخلاصيّة» قد وُلد من رحم الصّناديق التي جادت به، كما لن تجود بواحد مثله، لا من قبل ولا من بعد. وفي بلادنا وما يماثلها من بلدان تعاني نقصا مريعا في ثقافة الديموقراطيّة، وهضم خبراتها وتجاربها المتنوّعة، لم تقدّم صناديق الانتخاب تلك الحلول النّاجعة للمسألة الديموقراطيّة في العديد من الأروقة السّلطويّة، حتّى تلك التي نشأت في أحضان سلطات ليبراليّة نشأت بدورها منذ عهود الحكم الكولونيالي، وخبرت العديد من التّجارب الديموقراطيّة، فمن الجزائر إلى كينيا في وقت سابق، إلى جورجيا وأوكرانيا ومولدافيا مؤخرا، إلى زيمبابوي حاليّا، وحال «الانكشاف الديموقراطي» يمارس فعله النّافي، دون أن تجد حتّى التّدخّلات الإقليميّة والدّوليّة نصيبا من النّجاح في جسر هوّة الخلافات النّاشئة بفعل العمليّة الانتخابيّة. وهنا لا يختلف «فوز حماس» في انتخابات تشريعيّة و»تأويلها لنتائجها» كونها منحتها أو تمنحها سلطة تتعدّى نطاقات السّلطة إلى نطاقات هيمنيّة أبويّة؛ هي الأعلى من أيّ سلطة، فكيف إذا اقترن الأمر أو جرى تآخي السّياسة السلطوية بالدّين وتماهيهما، حينها يصبح «التّكليف الإلهي» بديلا للعمليّة الديموقراطيّة وإنهاء لها بالسّيطرة عليها والعمل على إلغائها مرّة .. وإلى الأبد!. هو المنطق ذاته يتكرّر ويكرّر «مناقبيّات» السّلطة «المسرطنة» في نظرتها لذاتها ورؤيتها للآخر، حيث الفشل هو بالتّحديد نجاحها في التّمسّك باعتقاداتها الخاصّة، التي هي محور مشروعها الخاص المناهض والمناقض ليس للدّولة أو السّلطة الوطنيّة، بل وللوطنيّة ذاتها، فأيّ تطوّر ديموقراطي ممكن والحالة هذه داخل المجتمعات الوطنيّة القاصرة أو العاجزة عن بناء الدّولة، ولأسباب داخليّة أوّلا وأخيرا، دون تجاهل المسبّبات الخارجيّة بالطّبع، الأقل شأنا، إذا ما نظرنا أو نظّرنا للمسألة بموضوعيّة؟!. * كاتب فلسطيني.