كان موضوع المقال الماضي عن الصورة الأولى لنكاح الفتاة القاصر، وهي تزويج الأب لابنته الصغيرة التي هي دون البلوغ، غير أنه وإن قال أكثر العلماء بجوازه وصحة عقده، حتى وإن حُكي فيها إجماعٌ، إلا أنها لا تزال مسألة اجتهادية، تحتمل الاختلاف، وما حكي من إجماع فهو منقوض بمخالفة من خالف من الفقهاء، كابن شبرمة وأبي بكر الأصم وعثمان البتّي، ومال إليه ابن عثيمين، والقول بمنع الآباء من تزويج بناتهم ما لم يبلغْنَ قولٌ وجيه، تحتمله الأصول والقواعدُ الشرعية، فإن الأصل اشتراط رضا الزوجين في النكاح، والصغيرة لا رأي لها معتبراً، نظراً لصغرها، فلم يمكن التحقق من رضاها، فيُمنع من تزويجها حتى تبلغ ويصبح رأيها معتبراً. وما استدل به الأولون قابلٌ للمناقشة والتأويل، وليس هذا موضوع بسط الأدلة والمناقشة. وفي رأيي أن أكثر ما يكون الإشكال في الصورة الثانية، وهي تزويج الفتاة (البالغ) التي لا تزال في عرف القانون المدني قاصراً، لعدم بلوغها سن ال 18، فالقوانين المدنية تمنع ذلك وتحرم الفتيات من هذا الحق الشرعي بحجة أنهن ما زلن قاصرات غير راشدات، ومن المفارقة في هذا أن المؤسسات التعليمية في بعض الدول التي تلتزم هذه القوانين تحاول ترشيد العلاقات غير الشرعية - بزعمها - بتوزيع واقيات لمنع انتشار الإيدز والحمل السفاح! فهي تعترف بما لديهن من غريزة يحتجن معها إلى إفراغها ضرورةً، وأنهن وإنْ كنّ في مرحلة مبكرة إلا أنهن لا يستطعن كبت هذه الغريزة ولا الصبر عن إنشاء العلاقات ما دمن يدرسن في جوٍ تعليمي مختلط. وفي تشريع منع الأولياء من تزويج الفتيات (البالغات) اللاتي ما زلن - في عرف القانون - قاصرات اشكال كبير، ذلك أن الشرع جعل رضا الفتاة معتبراً في شأن تزويجها إذا بلغت، ولا يمكن تحديد البلوغ بسن معين، فقد تبلغ وعمرها ثنتا عشرة سنة، أو ثلاث عشرة سنة، والعلماء مجمعون على أن البنت متى ما حاضتْ فقد بلغت وجرت عليها أحكام المكلفين، فإذا كان رأيها بعد بلوغها معتبراً في أمر زواجها، فإن من مصادرة حقها الشرعي أن تُمنع من الزواج من الكفء إذا هي رضيته ورضي بعدها وليها. وإذا كان ليس من حق الولي أن يمنعها من الكفء فغير الولي أولى. ثم ماذا لو حصل أنْ زوَّج الولي فتاته البالغ برضاها وهي دون 18سنة؟ ما وجه إبطال هذا العقد مع اكتمال شروطه وأركانه؟ إن ما صح في الشرع لا يُبْطل إلا بالشرع. ومن هنا فإن تردد المؤسسات الشرعية المخولة بالإفتاء في المملكة في تسويغ المنع من تزويج البالغات - اللاتي دون سن 18 - هو في الحقيقة تردد وجيه، بل إن التوجّه إلى عدم تسويغ منعهن من الزواج توجّهٌ قويٌ له مستنده الشرعي، وليس هو بأقل من تشريع المنع في مراعاة حقوق المرأة والدفاعِ عنها والاحتياط لها. نعم! يسوغ - مكان ذلك - أن تشرع عقوبات صارمة على كل من يزوِّج فتاةً من غير كفء ليراعي في ذلك مصلحته على حساب مصلحتها، حتى ولو رضيت الفتاة بذلك الزوج، لأن الولي مطلوب منه ألا يزوج موليته إلا ممن هو كفء لها، بحيث تكون مصلحتها في زواجها منه. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]