لا يمكن الباحث أن يذكر العلامات المضيئة في مسيرة السينما المصرية، من دون أن يذكر أعمال كاتب السيناريو بشير الديك، التي بلغت 43 فيلماً ل17 مخرجاً على امتداد عشرين عاماً من 79 الى 99. من يغفل عن «سائق الأوتوبيس» و «الهروب» والفيلم الساخر «زيارة السيد الرئيس» المصنفة على قائمة أهم مئة فيلم في السينما المصرية، إضافة الى «موعد على العشاء» و «الحريف» و «ضد الحكومة» و «ناجي العلي»؟ كلها أفلام جادة تطرح جوانب من الحياة اليومية للأسرة المصرية، زمن التحولات الحادة من الاشتراكية الناصرية إلى الانفتاح السداح مداح، ذلك الذي ألقى ظلالاً معتمة على الفرد والمجتمع، على القيم والتوجهات. لقد مرت عشر سنوات حتى الآن والكاتب الكبير معتزل معشوقته السينما. فهل للمشاهد المحب للأفلام أن يسأل عن الأسباب. منطلق فكري تلتقي سيناريوات بشير الديك على منطلق فكري مهموم بالطبقات الشعبية ومعني بالأسرة المصرية. ففي أول أفلامه «مع سبق الإصرار» (79) إخراج أشرف فهمي، يبدي تعاطفاً مع الضعف الإنساني معتبراً «الجنس أو المال» محركاً للدراما. فالمرء مهما زادت ثروته أو علا مركزه تلح عليه رغبته وتدفعه احتياجاته. في ذات الفيلم يعاني مصيلحي من نقطة ضعف هي عدم قدرته على الإنجاب بينما تتحرك في بيته وأمام عينيه طفلة صغيرة تناديه بابا، ما يمثل دافعاً لقتل زوجته ومطاردة وكيل النيابة المحترم والذي يشك مصيلحي في أنه والد الطفلة. وفي فيلمي «الرغبة» إخراج علي بدرخان و «طائر على الطريق» إخراج محمد خان يكون العجز الجنسي دافعاً للبطل كي يتحصن بالتسلط لتعويض النقص جراء الإعاقة. وفي «سواق الأوتوبيس» إخراج عاطف الطيب ينطلق حسن لمقابلة شقيقاته المقيمات مع أزواجهن في مدن متفرقة يطالبهن برد الجميل للورشة المهددة بالبيع والتي كثيراً ما فكت أزماتهن، يتقبل حسن طلب المساعدة المشوب بالذل من واقع الاحتياج الملحّ، إلا أنه يقابل بنكران الجميل. تلفت نظر الباحث عناية بشير الديك – من الوجهة الاحترافية – باختيار نقطة قوية لانطلاق الأحداث. نقطة تفجر الصراع من اللحظة الأولى وقد يستهل الفيلم بمشهد صادم لجريمة غامضة ويكون على المشاهد الإمساك – خلال السياق – بأطراف الصراع. ويعالج الكاتب الجريمة في الدراما على مستويات عدة، فعلى المستوى الأول يقدمها في معالجة بوليسية تعتمد على المطاردات وقد يثري الحبكة بالعوائق والعلاقات المتشابكة والصدمات، ما يضاعف التشويق، وعلى المستوى الآخر تكون الجريمة وسيطاً درامياً للكشف عن الحقيقة الكاملة. ففي فيلم «الحريف» يستهل السياق بجريمة تحرك الدراما وتكشف عن معدن فارس الذي تقهره الظروف وتحوله من شخصية شعبية إلى شخصية انتهازية، ذلك بعدما تغيرت قوانين اللعبة في المجتمع. خلال مجمل أفلام بشير الديك يختفي الحب كدافع للصراع كما اعتدنا في السينما المصرية الكلاسيكية، إذ لم يعد الحب هو حكم البشرية ولم تعد معوقاته من مسببات التعاسة. لقد استبدله بدافع آخر أكثر قوة هو الثروة. والثروة من منظور الكاتب ليست مرادفاً للشر إنما يرى الشر في الاحتياج الشديد الى المال وأيضاً في ارتباط الثروة بالسلطة. تلتقي دراما الثروة بالمنطلق الفكري للكاتب من حيث إنها دراما أفقية مجتمعية وواقعية وفي ذلك الإطار لا يغفل عن المؤثرات الفكرية والثقافية المرافقة للثروات الوافدة من خارج البلاد وأيضاً فضح الفساد الذي يفرزه زواج السلطة بالثروة كما في قضايا التعويضات وتجارة المخدرات ومافيا التهريب. وفي إطار النوعية ذاتها من الدراما يولد الكاتب الصراع على مستويات عدة في مقدمها الصراع من أجل مقاومة الفساد، يليه التنافس على مواطن النفوذ ثم أطماع التوسع لدى ممارس النشاط المشبوه. خلال السياق يكون البطل هو الفرد أو الجماعة المصابة من جراء التحويلات ويكون البطل المضاد أو العدو الحقيقي هو الظلم والقائمون عليه. في فيلم «الهروب» إخراج عاطف الطيب يرضى منتصر البدري بالعيش على عمليات نصب صغيرة على الراغبين في السفر للعمل في دول النفط ولكن يأبى ممارسة النصب على أبناء بلدته فيتحول من شخصية بسيطة إلى بطل ملحمي يحمل على كتفه قضية يدافع عنها ضد الظلم والفساد. وتتحول قريته المنسية في أقاصي الصعيد إلى منجم لاستخراج أبطال الملاحم ذوي المعادم النفسية. وفي «عصر القوة» إخراج نادر جلال تتحول المحامية المحترمة ابنة العائلة العريقة إلى مجرمة محترفة تتحايل لاستغلال ثغرات القانون لمنفعتها بعدما صدمت بموت شقيقها بين ذراعيها من دون مساندة قانونية ولا عون من المجتمع. وفي فيلم «ضد الحكومة» إخراج عاطف الطيب يتحول المحامي الفاسد إلى بطل يتحدى شركات التأمين حين يكتشف ابن أحد ضحايا حادث الاوتوبيس أولئك الضحايا الغلابة الذين كان يتاجر بمستحقاتهم. سنوات التكوين لمناسبة تكريم كاتب السيناريو بشير الديك في مهرجان السينما المصرية قبل فترة، أصدر صندوق التنمية الثقافية كتاباً بعنوان «بشير الديك... جدل الواقع والخيال» بقلم الباحث محمد شوقي عبدالفتاح، يتحدث فيه عن ميلاد الكاتب المحتفى به في قرية خضراء ساحرة في أقصى الشمال، قرية يحتضنها البحر والنهر وبحيرة المنزلة، حيث قضى الكاتب طفولة هانئة بين الأهل والأصحاب ونشط خياله مع حكايات خالته الزاخرة بالخرافات والغرائب، وحين انتقل إلى المدينة بحكم وظيفة والده في الحكومة كان يحن إلى العودة إلى قريته ليراقب أسراب الطيور المحلقة في الفضاء وكان ينصب لها الفخاخ على ضفاف الترع والجسور. شغف بشير منذ حداثته بالقراءة ذلك الشغف الذي لازمه فترة دراسته في كلية التجارة في جامعة القاهرة فاطلع على كلاسيكيات الرواية المصرية وعلى الأدب الروسي مترجماً. انضم بشير إلى جمعية أدبية في محافظته دمياط وراسل الصفحات الأدبية التي نشرت له بعض قصصه القصيرة وذلك قبل أن يعين في وظيفة حكومية في القاهرة ويتعرف إلى كاتب السيناريو مصطفى محرم والفنان نور الشريف والمخرج أشرف فهمي. كان التقاء بشير الديك مع المخرج الراحل عاطف الطيب التقاء على خط المواجهة مع الواقع المعاصر، أثمر سبعة أفلام كان باكورتها عملهما البديع «سواق الاوتوبيس». ويلتقي الكاتب مع المخرج عاطف الطيب على هاجس يؤرقهما فيطرحان تورط بعض أفراد من الشركة في قضايا فساد مع بعض من رجال الأعمال ورجال الصحافة والسياسة. في فيلم «ضربة معلم» يجد ضابط الشرطة الذي تأخر به سن الزواج وما زال يقيم مع أفراد أسرته في البيت الكبير، يجد نفسه محاصراً بين أفراد أسرته من ناحية ورؤسائه من الناحية الأخرى للإسراع في القبض على مجرم متهم بجريمة قتل وهو في الوقت ذاته أحد أبناء الأسرة. وفي فيلم «الهروب» تفيض الدراما حين يكون الشاب الصعيدي بطلاً وضحية في الوقت ذاته، فالحق يلزم بالانتقام ممن تسبب في إفساد حياته وتلويث شرفه والواجب يلزمه بالهرب من قاعة المحكمة لتلقي العزاء في والدته في مسقط رأسه في الصعيد. وفي «ضد الحكومة» يعلي الكاتب – انطلاقاً من قاعدته الفكرية – من قيمة الواجب فلا يتنازل المحامي عن الدفاع عن الحق ومناهضة الظلم مهما تعرض له من أساليب الترهيب والإذلال إلى تلفيق تهمة تزج به في السجن. وفي فيلم «جبر الخواطر» يقوم الطبيب بتحدي فساد السلطة بالكشف عن فضيحة استغلال المواطنين البسطاء لإجراء التجارب برعاية هيئات أجنبية في غفلة من الضمير والقانون. وفي فيلم «ناجي العلي» يرد الاعتبار الى فنان فلسطيني تمرد على السلطة وأعلن رفضه معاهدة الخزي والعار فعملت جهات متصارعة على تصفيته. على طرفي نقيض أيقن الكاتب أن المخرج محمد خان يملك طاقة جبارة للتعبير عن النفس الإنسانية وعذاباتها، إلا أنه كان على النقيض من المنطلقات الفكرية مع الكاتب، غير أنهما اشتركا في عمل خمسة أفلام لاقت نجاحاً جماهيرياً ونقدياً بينها «الحريف» أحد أهم أعمالهما. «الحريف» مرثية للزمن الجميل يرصد تحولات المجتمع وتأثيرها في الحريف كشاهد شريف... والحريف لا يحترم حرفة ولكنه يجيد كل الألعاب بداية من المراهنة على أوراق اللعب في المقهى إلى مواكبة التحولات والمشاركة في ألعاب العصر المشبوهة. ويذكر شوقي عبدالفتاح في كتابه أن فكرة فيلم «سوق الأوتوبيس» كانت لمحمد خان، غير أن معالجة بشير الأفقية للفكرة ذات البعد الاجتماعي لم تلق قبولاً من خان فالتقطها عاطف الطيب ليبدع فيلماًَ من أهم مئة فيلم في السينما المصرية. تكشف مجموعة أفلام بشير الديك عن موقعه من فكرة الحرية، إذ يرى أن الإنسان يولد حراً كما الطير في فضاء بلدته، فهو يستمتع بالحرية من دون أن يقيم وزناً للتقاليد والقانون وغيره من القيود. وفي «موعد على العشاء» و «طائر على الطريق» تنطلق الدراما على عكس التيار السائد في المجتمع، ذلك التيار الذي ينبذ الفقر ويدفع المرء للانفتاح على دول النفط. خلال السياق ترتبط البطلة بالرجل البسيط (سائق أو كوافير) الذي يعزف على مشاعرها وتنشأ بينهما مشاركة حقيقية في عالم حقيقي فياض بالإنسانية. استقلالية المرأة المرأة في أفلام بشير الديك ذات كيان مختلف مثير للدهشة. فهي عنصر فعال في الدراما ذات مكانة محورية في معظم الأفلام مع تنوع أدوارها كزوجة وحبيبة وأم ومحامية، وهي كيان مستقل، تعبر عن نفسها بثقة ولا تحتاج إلى مساندة الرجل بل تقف على قدم المساواة معه. ففي «ضربة معلم» تأخذ ليلى علوي قرار ارتداء الحجاب لتتواءم مع الأجواء المتحفظة في كليتها، كلية البنات وتحقق مصالحها. وفي «سواق الأوتوبيس» تقدم شقيقة حسن جنى العمر في الخليج والذي أدخرته لدفعه مقدم إيجار شقة تجمعها وزوجها – عن طيب خاطر - لشقيقها من أجل إنقاذ الورشة. وتعرض الشقيقة الصغرى الزواج على أبو عميرة تاجر المخدرات مضحية بحبها وشبابها من أجل إنقاذ الورشة. وتسعى زوجة حسن لتلقي دروس في اللغة الإنكليزية لتلحق بركب الانفتاح والاستثمار. وتلتقط نادية الجندي ذلك الإطار الفكري للكاتب ليشبع طموحها في بطولات نسائية خارقة حتى ولو كانت على حساب الواقع والدراما والخيال. ففي «ضد الحكومة» تشارك كمحامية في نشاط هيئة الدفاع المستفيدة من التعويضات التي تصرفها الحكومة لضحايا حوادث السكة الحديد، وفي «الطوفان» تدفع حياتها ثمناً للثبات على مبدأ وترفض أن تدلي بشهادة زور من أجل ابنائها، وفي فيلم «الشطار» ترفض أن تتنازل عن حقها من قاتل زوجها. تفيض مجموعة أفلام الكاتب بشير الديك عن منطلقات فكرية جادة مرتبطة بالواقع والعصر، ما يتطلب دراسات متأنية تتابع مسار الباحث عن الحقيقة الذي كرمه المهرجان القومي للسينما المصرية في دورته الحالية.