الدولة الناهضة من نظام التمييز العنصري تتلهف لتثبت أنها على قدر مهمة تنظيم كأس العالم لكرة القدم التي تنطلق في 11 حزيران (يونيو) الجاري، بلقاء منتخبها مع المكسيك. هذه اللعبة التي وجد فيها أبناء البلد الأفارقة أحد سبل نضالهم لنيل حقوقهم، لا سيما معركتهم الطويلة ومواجهاتهم لنظام الفصل العنصري و»بيضه» الذين برعوا في الركبي ونشروها في أنحاء البلاد. كرة القدم لعبة الفقراء والمهمشين، قادت جنوب أفريقيا لتصبح أول بلد في القارة السمراء ينظّم المونديال شاغل الدنيا والناس. فلا عجب إن حضّ النجم الكاميروني صامويل ايتو نظيره العاجي ديدييه دروغبا على بذل قصارى جهده لتخطّي إصابته من أجل المشاركة في المونديال «من أجل أفريقيا». منذ مطلع القرن الماضي جابه الأفارقة المستعمرين أصحاب الاستثمارات ورؤوس الأموال الذين ادعوا «تمدينهم»، بالتمايز وتقديم هوية مغايرة، فتجاوزوا شظف العيش في مدن الصفيح خصوصاً بجوار المناجم التي عملوا فيها وكابدوا الأمرين، وتشبثوا بمزاولة كرة القدم وفاخروا بذلك. شغف تمسكوا به حتى خلف قضبان المعتقلات، كما يوضح طوني سوز أحد السجناء السياسيين في جزيرة روبن، حيث أعتقل الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا. ويذكر سوز أن المعتقلين دُفعوا إلى الأشغال الشاقة وتقصيب الحجارة تحت أنظار حراس بيض. ويقول: «كنا نعاني من الحساسية وأمراض صدرية، لكن كرة القدم كانت حياتنا. وبرهنّا من خلالها أننا نماثل باقي العالم، إذ عبّرت عن هويتنا التي حاولوا طمسها فظلت مشعة إلى أن وجدت الطريق نحو الحرية». في كتابه «أكثر من لعبة»، يسلّط المؤرخ البريطاني تشوك كور الضوء على تلك الظاهرة التي قادت «هؤلاء المساكين» إلى الخلاص. وينقل عن فرانكلين تشاكان مدير نادي أورلاندو بايرتس أحد أقدم أندية سويتو (خامس الدوري العام حالياً)، أن «غرف المنازل كانت صغيرة وجدرانها متداعية وسقفها من الصفيح. وكانت كرة القدم وسيلة لمجابهة صعوبات الحياة». منذ العام 1940، زاول ملايين من سكان مدن الصفيح كرة القدم حفاة على أراضٍ غير مستوية بكرات شراب أو كرات تنس، أو تناقلوا وسددوا عبوات بلاستيكية مكورة نحو مرمى هيكله أغصان يابسة أو حجارة. وجميعهم حلموا بأن يكونوا ستيفن موكوني لاعب بايرتس أول جنوب أفريقي أسود احترف في إنكلترا، ويقتدوا بإنجازاته. وجهدوا ليبرعوا ويفرضوا وجودهم ويثيروا اهتمام الفتيات خصوصاً، باعتبار أن لاعب كرة القدم البارع كان مميزاً اجتماعياً. ويكشف سوز أنه كان في إمكان كثر من أبناء جيله البروز لولا أن السياسة خطفتهم إلى مكان آخر، إذ وجد قادة الأحزاب (خصوصاً حزب المؤتمر) في الأندية ضالتهم، فكانت حقلاً خصباً لبث أفكارهم. وكافح المعتقلون 208 أسابيع لينالوا الحق في مزاولة كرة القدم. وأسهم الصليب الأحمر الدولي في تحقيق ذلك. وتوصلوا إلى تنظيم دوري خاص بالسجون والمعتقلات. وكسبوا لاحقاً عطف حراسهم وصداقتهم فتحولوا إلى أنصار للفرق الثمانية الناشطة في السجون، والتي كان لها دور فاعل في عز «انتفاضة الاستقلال». وبعدما كانت فرق أندية الغيتو لا تواجه فرق الأفارقة، سجلت نقلة تاريخية العام 1975 عندما التقى بايرتس وايتز أونلي (بيض فقط) في هايلاندز بارك. يومها دخل بايرتس المباراة من دون نجمه جو سومو (54 عاما حالياً) الملقب ب «بيليه جنوب أفريقيا»، إذ كان يحتفل بزواجه، لكنه سارع بعد إتمام المراسم والتحق بالفريق وقاده إلى النصر 4 - 2 بعدما تخلف بهدفين. سومو أو «الأمير الأسود» أضحى رجل أعمال ومالك نادي جومو كوزموس. وكان بائع الفواكه انضم إلى بايرتس صدفة في سن الرابعة عشرة، وتميّز بركلات الحرة على طريقة ال «بانانا كيكز». ولعب ضمن منتخب جنوب أفريقي مختلط التقى الأرجنتين وفاز عليه بخمسة أهداف من دون ردّ العام 1976، ثم التحق بكوزموس النيويوركي العام 1977 وزامل الأسطورة بيليه. واشترى فريق أونلي وايتز العام 1982 وسماه جومو كوزموس. ولعلّ في هذه السيرة المختصرة قصة التألق الجنوب أفريقي ومصدر فخر المواطنين الأصليين.