«إن الحكومة الحالية تدين هيكلياً بالولاء السياسي لأميركا حتى وهي تحاول ادارة وموازنة المتطلبات والدوافع الايديولوجية والثقافية والسياسية الأخرى، مثل نفوذ ايران وتوقعات أتباعها الدينيين التقليديين». هذا هو نص كلمات الباحثة الاميركية ايلين لايبسون رئيسة معهد ستيمسون للدراسات الاستراتيجية. والنص موجود في وثيقة مهمة طرحها المعهد في الشهر الماضي وهي جزء من جهد سياسي – بحثي قام به فريق عمل تابع للمعهد وبإشراف لايبسون والسياسي – الاداري تشارلس دوني مسؤول العراق سابقاً في مجلس الامن القومي الاميركي. وكانت مهمة الفريق في فتح الحوارات والنقاشات المباشرة مع شلة من العراقيين «المنخرطين» في «العملية السياسية» والذين يمثلون «المكونات» الاساسية للمجتمع العراقي بحسب الوصفة البريمرية الشهيرة! تمكن المغامرة بالقول إن الجهد المبذول في الدراسة يختلف «مدرسياً» عن الابحاث المطروقة والتي تفاخر بعض مراكز التحليل بطرحها وبكونها تتقاطع عملياً مع السياسة الخاصة للإدارة الاميركية وبغض النظر عن تطابقها أو تناقضها مع الاستراتيجية العامة للمؤسسة الاميركية الحاكمة. إحدى علامات الدراسة، مثلاً، هو حديثها الصريح عن «السياسة الاميركية المعيبة في فرض الطائفية في 2003 كطريقة لإثبات درجة التمثيلية». لكنها لا تحاول التخلص فعلياً من هذا الارث الثقيل وتطرح البديل الجلي المقنع. لهذا فنحن نتحدث الآن عن الدراسة في سياقها القادم أكثر من الوضع النقدي للخيارات السابقة وكيف أن الدراسة تنسج علاقة «ما» بين أبعاد مختلفة في إطار زمني موحد. إن التركيز على عامل الزمن هو هاجس الدراسة «الميداني» ومحور الآراء الواردة من أجل شرح الامكانات المتوافرة والضرورية لصناعة علاقة «ما» بين العراق وأميركا. وهنا يظهر التركيز على نقطتين مركزيتين: الأولى – مسار «العملية السياسية» ومستقبل «الديموقراطية» في الشأن الداخلي العراقي والثانية – كيف يمكن توقع أو أن تكون العلاقة مستقبلاً بين العراق وأميركا. وبلا ريب تتضمن هذه النقاط قضية الانسحاب «العسكري» الاميركي في نهاية 2011 والعلاقة العسكرية – المدنية بين الطرفين بعد هذا التاريخ المذكور. والتركيز هنا «استراتيجي» بما يخص الوضع بتفاصيله مع ايران و «تكتيكي» حين يشمل العلاقة الخاصة مع البيئة العربية للعراق. لكن المتابع السياسي سيكون مضطراً للربط «الزمني» بين هذه الدراسة وبين الاستراتيجية الجديدة الاميركية التي طرحت في منتصف الشهر السابق وكذلك القرار التنفيذي 13541 – 10 أيار (مايو) 2011، الذي أصدره البيت الأبيض في خصوص علاقة الشراكة «الاستراتيجية» مع العراق وتشكيل مكتب خاص حول ذلك في وزارة الخارجية الاميركية. إن مكتب «ايسبو» المشار إليه سيكون بديلاً لمكتب «مساعدة العراق الانتقالية» ويحل مكانه في المستقبل القريب. وبقراءة متأنية للقرار التنفيذي هذا يتأكد للمراقب أن الاهتمام الاميركي الجديد يتجاوز العلاقة التقليدية بين الادارة ومراكز البحث: شاورهن وخالفهن!! وتصل الرؤيا إلى مسارات جديدة حيث تمثل الدراسة روح العلاقة التي «تتصورها» الادارة بين اميركا والعراق الجديد. تحاول الدراسة أن تقول أشياء بجلاء وتلمح إلى أخرى من دون تصريح أو تفصيل. وإذ هي تسجل مقاربة خاصة حول طبيعة الانتخابات الأخيرة ونتائجها المعروفة، فإنها تغض النظر عن العوامل الجوهرية التي أدت إلى هذه التغييرات الواضحة. ومع أن الدراسة لا تنكر طموحها في «قدوم ائتلاف علماني طائفي للحكم، وعليه يمكن التكهن بشيء من التقدم في شكل العلاقة والمقدرة على التعاون في القضايا الاقليمية»، فإنها تتملص من إعطاء جزم مباشر في ما يخص مستقبل الوضع الداخلي وتخاطر بالحديث عن منجزات غير مكتملة ألحقت الضرر البالغ بمؤسسات العمل «المدني» المرتبطة مباشرة مع مكتب الإعمار المركزي وفروعه المحلية الكثيرة في المحافظات. لكن الدراسة تعتمد في حواراتها المباشرة على وجهات نظر ذات طابع «مكوناتي» أكثر من صيغ نواياها المدونة في خطة البحث المطروحة. لذلك، فإن الأحكام الصادرة من المساجلين كانت كيفية من الناحية «السياسية» ولها انعكاسات وتأثيرات «محلية» لا تصلح لتشكيل نماذج خاصة في الوضع العراقي العام. من هذه الزاوية، مثلاً، فشلت الدراسة في تعبئة الفراغات التي خلقتها إدارة بوش في ما يخص العلاقة المستقبلية بين العرب والكرد وما هو المصير الفعلي للصيغ السياسية المتعددة حول مطاليب الكرد ومنها كركوك، لا سيما أن الانتخابات الأخيرة قد وجهت ضربة قاصمة للبرنامج الكردي حول ما يسمى «المناطق المتنازع عليها» في كركوك والموصل. وتعلن الدراسة عن النية في كتابة فصل جديد متميز في كتاب العلاقات المستقبلية العراقية - الاميركية. وهي إذ تمنح العلاقة تسمية خاصة لا تردد فيها: «الشراكة الاستراتيجية»، فإنها تغامر بفتح «فكري» جديد بكون «الشراكة الاستراتيجية» مع العراق هي الصيغة الأهم والأكثر جدوى وذلك لوجود نقص خاص ومهم «جغرافي – سياسي» في صيغة «التحالف الاستراتيجي» التقليدية. ولن نعاني من الدهشة إذا قرأنا مثل الفقرات الآتية: «لكن الديناميكيات الاقليمية والسياسات العراقية يمكنها التغير مع الوقت، وكل من بغداد وواشنطن يمكنهما إيجاد دور قوي للعراق في إدارة الأزمات الاقليمية والحفاظ على الأمن للدول الأصغر بما فيها ايران»! وتضيف الدراسة بوضوح أكثر: «العراق يعمل لموازنة علاقاته مع تركيا والدول العربية لمنع ايران من فرض سيطرتها على الأوضاع في العراق»! وتستمر الدراسة في إزالة الغموض الذي يخيم على بعض وجهات النظر الحالية بالقول: «عدم التعاون بين اميركا والعراق بخصوص ايران يكلف العراق غالياً»! بيد أن الدراسة المفعمة بالتصورات الاستراتيجية تدير الظهر للعلاقة الجوهرية بين «الداخل» العراقي و «الخارج» الاقليمي. ولا يمكن تفسير ذلك بالكتمان الأمني، ولكن بالشعور الحاد لدى المؤسسة بأن الاستفاضة في شرح هذه الأبعاد يفقدها الجانب «النظري» العام ويدفعها للغوص في الجوانب «التطبيقية» المطلوبة. إن الذرائعية التاريخية والانتقائية التجريبية والتشخيصات العلاجية تظل هي السمات الأساسية للفكرة السياسية الأولى في الخطط «الاستراتيجية» للدول العظمى في التاريخ. إن الوثيقة الاستراتيجية الأخيرة التي طرحتها الادارة الاميركية تشكل نمطاً فاقعاً من هذه التجارب التاريخية المكررة. فالعتلة الاستراتيجية لا تهتم بصمود «الهيمنة» كما يقول بدقة صمويل بيرغر، ولكن بالعلاقة العضوية بين الهيمنة الاستراتيجية من جانب وبين «السيطرة» الاستراتيجية المرحلية من الجانب الآخر! فهل يمكن تصور نجاح هذه الدراسة في تصوراتها؟ الباحثة التي أشرفت عليها لا تنكر تشاؤمها بأن تتحول العلاقة إلى سياسة تسميها «الذهاب والإياب» فقط لإنجاز آليات الحركة والإبقاء على حيوية مركباتها الضرورية لها! * سياسي وكاتب عراقي