جلس أمامي وبعد التعارف، صمت قليلاً، ثم انطلق لا يوقفه شيء: أحس أني أكره الحياة وأكره الموت. أكره الوجود واللاوجود. محاصر في ذاتي أينما ذهبت وكيفما فعلت، لا تلمسني الأشياء. لا تؤثر فيَّ. أعاني... كيف ولماذا؟ لا أعلم. كل ما أعرفه هو أنني أعاني. هل تفهم؟ أجيبه: نعم، أفهم. يهز رأسه بالنفي: لا، أنت لا تفهم، بل بالأحرى لا تحس. ليس معنى أنك طبيب نفسي أن تحس بي. أنا لستُ مكتوباً في كتبكم. أحاول أن أتفهم معاناته ولا أتفاعل مع هجومه، فلن تزيده محاولتي إلا حنقاً وهو ليس في حاجة إلى مزيد من الحنق. أصمتُ لعلَّه إذا أفرغ ما به، لا ينفجر. هل تعرف كيف يمكنك أن تعيش وسط الناس، تفعل كما يفعلون وتراهم يضحكون ويحزنون وأنت لا تستطيع أن تفعل هذا، لا لشيء إلا لأنك لا تستطيع. تحاول أن تقلد مشاعرهم، تتذكر حين كنتَ تحس ما هو المفروض أن تحس به في مثل هذا الموقف، تستدعي الإحساس من ذاكرتك، لا من عواطفك. هل تعلم كم هو مُجهد أن تظل تحيا في هذه الحالة، طول الوقت تستدعي مشاعرك من ذاكرتك؟ وتظل في أسى دائم على ما لم تعشه من حياتك. لقد أصبحتُ أشتاق حتى للحظة حزن أعيشها بحق، لدموعي أن تسقط حزناً على شيء، أو أحد، لا أسىً على نفسي وعلى ما ابتليتُ به. ماذا لديك لي من حلول؟ فاجأني بسؤاله، فقد حاولتُ أن أتمثل حالته كي أعطيه هذا الإحساس بالمشاركة الذي أعلم أنه يفتقده. هو لا يريد من يفهم. هو يريد من يشاركه هذا الألم الذي يجعله في دنيا خاصة به. دنيا تقع في مكان خارج السعادة والحزن. دنيا من المشاعر المتغضنة العجوز. رددتُ على سؤاله بأنني لا أملك له حلولاً سوى تلك المشاركة وبعض العقاقير، لعلها تساعده، بل أنا متأكد من أنها ستساعده، فبادرني محتجاً: وهل ستحل لي أزمة عدم الإحساس أم أنها ستنسيني أني لا أحس؟ كان حواراً عبثياً، فهو فاقد الأمل، لكنه ما زال يتمنى وإلا لماذا جاء يطلب مساعدتي؟ لا أستطيع أن أسايره في هذا الاتجاه السوداوي حرصاً عليه، لكني لا أستطيع كذلك أن أخدعه بأن أقول له إن الأقراص ستعيد إليه جوهر سعادته المفقودة. بالتأكيد لن تتركه العقاقير أسير حالة الحصار، ما سيسمح له بمحاولة الخروج منها. كنتُ مباشراً: أسمع، أنا لا أعدُك بشيء سوى أنك لن تكون في هذا القاع من الجحيم، وهي خطوة إلى الأمام، ولا أعدك أني سأعاني معك، لكن على الأقل سأكون إلى جوارك ما استطعت. للحظة، أحسستُ بتغير ملامحه، فكأنما صادَف حديثي قبساً من روحه التي انطفأت شعلتُها، فهدأ قليلاً وهو يقول: شكراً لأنك لم تخدعني على الأقل وتعدني بما لا تستطيع الأقراص أن تفعله، لكنك رغم محاولتك أن تحس بما أنا فيه ما زلت لا تستوعب. أنا لستُ في الجحيم ولا في الجنة، أنا موجود حيث اللاشيء المؤلم. تركني وانصرف. لم أره ثانية. أتمنى أن يكون قد وجد سلامَه في مكان ما لا تتعذب فيه الأرواح.