ثمة خلفية غير مقروءة بوضوح لصورة إسرائيل القاتلة البربرية التي تتمتع بمعين لا ينضب من العنصرية والوحشية، والتي لم تتورع عن ممارسة أوضح وأبشع جرائم العصر من خلال اغتيالها أسطول الحرية وركابه الذين كانوا يحملون مساعدات إنسانية وطبية لشعب غزة، في عرض البحر. ومن ثم، وعطفاً على ذلك، مشاركة عدد من نواب الكنيست الإسرائيلي، ومن الكتل البرلمانية المختلفة، بالتهجم على النائبة عن «حزب التجمع الوطني» حنين الزعبي، ووصفها بعبارات عنصرية فاقعة من نمط «إرهابية» و «خائنة» و «حصان طروادة» و «سافكة دماء»، ومطالبة وزير الداخلية الإسرائيلي، ايلي بشاي (حركة شاس) المستشار القضائي للحكومة يهودا فاينشتاين، السماح له بالمباشرة بإجراءات لسحب مواطنة النائبة الزعبي بسبب مشاركتها في «أسطول الحرية»، متوكئاً في ذلك على إقرار الكنيست، وبالقراءة التمهيدية، مشروع قانون ينص على منح المحاكم الإسرائيلية صلاحية سحب مواطنة كل من تدينه المحكمة بتهم «التجسس والخيانة والإرهاب»، وذلك كإضافة على العقوبة التي تفرضها المحكمة على المدانين بهذه التهم. الخلفية المشار إليها لا تتعلق فقط بواقع إسرائيل القلق الذي تحاول حكومة نتانياهو دحرجته إلى الأمام، والقفز به من فوق حقائق القرن الحادي والعشرين الاستراتيجية التي تؤشر إلى تراجع قوة ومكانة الولاياتالمتحدة التي ارتفع حجم ديونها، وللمرة الأولى في التاريخ، إلى أكثر من 13 تريليون دولار أميركي، وكذلك إلى تراكم الشعور الإسرائيلي بالتهديد الوجودي الذي يعبّر عن نفسه بضخ المزيد من التطرف والاستيطان والمناورات العسكرية، تحت ظلال تحوّل الدولة العبرية تدريجاً من ذخر إلى عبء على الولاياتالمتحدة، وفق تقدير رئيس جهاز الموساد مائير داغان، وارتفاع أسيجة العزلة الدولية في وجه إسرائيل في مقابل جدار العزل العنصرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتدهور مكانتها في العالم إلى مستوى غير مسبوق، وتمادي هذه الدولة المارقة في الاستهتار بالقانون والشرعية الدولية، ووضع نفسها فوق أية مساءلة. هذه الخلفية تكمن، فوق كل ما ذكر، في مفارقة الندم والحسرة التي ترشح من مختلف الأوساط السياسية والإعلامية، ليس على سقوط الضحايا الأبرياء في «أسطول الحرية» وتحول الجيش الإسرائيلي ونخبه المنتقاة إلى أدوات قتل صماء في يد القيادة السياسية الفاشية وأحزابها العنصرية، وإنما على عدم التمكن من أداء المهمة بنجاح، وبأقل الخسائر العسكرية والسياسية الممكنة، ودونما ضجيج عال كالذي بات يصم الآذان في مختلف أرجاء العالم. هذه المفارقة التي تزيل آخر أوراق التوت عن إسرائيل و «ديموقراطيتها» المزعومة التي تترجمها قيادة الجيش بترشيح الجندي الذي قتل ستة من متضامني سفينة الحرية «مرمرة» لنيل «وسام شرف وشجاعة»، وتسلط ضوءاً ساطعاً على حقيقة كون هذه الدولة كياناً مفبركاً لشذّاذ الآفاق من مختلف أصقاع العالم، تبرز جلية في الكثير من ردود الفعل والتعليقات الإسرائيلية التي، وإن اقتربت من الإجماع على فشل إسرائيل في مواجهة «أسطول الحرية» سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، على رغم المجزرة الدموية، إلا أنها صبت جلّ اهتمامها على انعدام التخطيط، وعلى الخفة البادية في اتخاذ القرار، ونقص المعلومات الاستخبارية، والإدارة السيئة التي لم تأخذ في الحسبان الثمن الذي ستدفعه إسرائيل لقاء السيطرة على سفينة «مرمرة»، لا بل والمخاطرة الحقيقية التي ألقي إليها جنود الكوماندوز من دون معرفة الكمين الذي ينتظرهم، وفق ما جاء في أحد التعليقات الإسرائيلية. ولعل المثال الأوضح على هذه المفارقة هو ما كتبه حزقيال درور الذي كان عضواً في لجنة فينوغراد التي حققت في إخفاقات الحرب على لبنان عام 2006 في «هآرتس» يوم 2/ 6، واعتبر فيه أن أحداث عملية السيطرة على «أسطول الحرية» تبرهن على أن جوهر دروس «حرب لبنان الثانية»، كما نصت عليها توصيات لجنة فينوغراد، لم يطبق، وأن التفكير السياسي - الاستراتيجي متمسك بإخفاقاته. ووفق درور، فإن رزمة من توصيات «لجنة فينوغراد» تم تجاهلها في هذه العملية، من نمط «الاستخفاف بالعدو»، وهو هنا المتضامنون المسالمون الذين ينقلون مساعدات إنسانية، وعدم وجود معلومات استخبارية صادقة عن الاستعداد في سفينة مرمرة، وتجاهل فحص السيناريوهات المتفائلة والمتشائمة للعملية في الوقت ذاته، وعدم استعمال «كتلة حرجة» من القوات المهاجمة التي لم تتلق تدريبات كافية، وثقة القيادة السياسية المفرطة بوعود وقدرة الجيش، ناهيك عن التقصير في دراسة التداعيات المحتملة التي كان ينبغي أن تجريها وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية. ما يعني، بنظر درور أن ثقافة السياسة الإسرائيلية ما زالت بدائية وتحتاج إلى تغييرات في البنية، وشغل المناصب، والإعداد، وإجراءات القرار والرقابة وبخاصة في ما يتعلق بالقيادة. ومن دون القيام بذلك، فإن إسرائيل ستبقى معرضة لطائفة أخرى من الإخفاقات مع تعريض مستقبلها للخطر. وعلى النحو ذاته، تمضي بقية الرؤى والتفسيرات والتحليلات الإسرائيلية التي بدت، في معظمها، صاخبة لجهة تقريع الحكومة العنصرية المتطرفة على إخفاقاتها المتتالية، بدءاً من دعوة 189 دولة (بما فيها الولاياتالمتحدة) إلى رقابة دولية على المنشآت النووية الإسرائيلية، وانتهاء بتداعيات عملية القرصنة الدموية على «أسطول الحرية». أما القاسم المشترك الذي يجمع هذه المواقف التي تبدأ بمقدمات صحيحة وتنتهي باستخلاصات قاصرة، فهو الحرص على تخفيض منسوب الخسائر الإسرائيلية إلى أدنى درجة ممكنة، وتقديم المقترحات التي تساعد الحكومة على الخروج من المأزق الذي يتدحرج ككرة الثلج، ولا سيما بعد خروج الأمر عن السيطرة، وعودة قضية حصار غزة إلى واجهة الاهتمام الدولي واضطرار، حتى أقرب أصدقاء الدولة العبرية، إلى المطالبة برفع الحصار، وارتفاع الحواجز أمام أية مغامرة إسرائيلية في القطاع، لا بل وتدني فرص الحصول على إجماع عالمي لفرض عقوبات على إيران، بعد اتضاح حجم النفاق الذي تمارسه الولاياتالمتحدة التي تعمل جاهدة على توفير مظلة سياسية وديبلوماسية لإسرائيل بعد قتلها المتضامنين الأتراك. * كاتب فلسطيني.