نادرون من لم يفتنهم منجزُ الفنّ المصري القديم من نحتٍ وتشكيل وعمارة ونقوش. وبعضٌ من فناني العالم لم يستطيعوا تجاوز ذلك الافتتان، فوقعوا في شرَك استلهام جمالياته في أعمالهم. هل أتجاسر وأقول إنني أرى في بعض لوحات بيكاسو، مراحل بدايات التكعيبية، ثم التكعيبية وحتى في لوحات المرحلة المتأخرة، استلهاماً واضحاً للفن الفرعوني؟ لوحة مثل «رأس رجل»، استلهم فيها بيكاسو أحد أوجه الهرم في أنف الرجل، «الغورنيكا» الشهيرة، حيث يظهر «العجل آبيس» أو «ابن بتاح» في يسار اللوحة. أما في لوحات كثيرة مثل «بورتريه مايا مع الدمية»، «رجل الغليون»، «امرأة جالسة على مقعد»، وسواها، فقد استلهم بيكاسو فكرة خلط زوايا التصوير؛ حين تظهر المرأة في بروفيل، بينما عيناها الاثنتان مرسومتان من زاوية أمامية، وهو ما فعله الفنان المصريّ حين نحت تمثاله بزاوية جانبية خالصة بينما عينُ المرأة تظهر كاملةً بحدود كُحلها الأسود كأنما تواجه الرائي، وكأن الفنان المصريّ يريد أن يقول إن المرأة بعد برهة ستدير رأسها من وضعها الجانبي لتظهر عيناها من زاوية أمامية. هذا عدا الآلات الموسيقية الوترية الفرعونية مثل الهارْب والمندولين والفيولين التي ظهرت بغزارة في لوحات الفنان الإسباني العظيم. هنا فنانة مصرية وقعت في هوى الفن المصري القديم حدّ الهوس. أصرّت أن يكون مشروع تخرجها، في كلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، قسم التصوير، من الفن المصري القديم، على رغم معارضة أساتذتها ومحاولتهم إثناءها عن ذلك، انتصاراً للتجديد والحداثة. لكنها رأت أن بوسعها الانتصار للحداثة انطلاقاً من تراثها وهويتها المصرية. ثم أكلمت مشروع افتتانها برسالة الماجستير عام 1993، وعنوانها: «التحوّل الدينيّ وأثره في فنّ التصوير في عهد إخناتون»، ثم رسالة الدكتوراه في فلسفة الفنون الجميلة عام 2000: وعنوانها: «القيمُ الفنية للرسوم على القِطع الحجرية والفخارية في الفن المصري القديم». التشكيليةُ المصريةُ عقيلة رياض، اختارتِ الخشبَ مادةً لخلفيات لوحاتها؛ لأن صلابته تشبه الحجر الذي جعله الفنانُ المصريّ القديم خلفيةً للوحاته الخالدة. ثم إن امتصاص الخشب غير المتجانس لمادة اللون، ودرجات تشبّعه المتباينة، تبعاً لزوايا الألياف التي تختلف على مسطح الخشب بين السنتيمتر والآخر، كل هذا هيأ لها معاجلةً تتوسّلها الفنانةُ لتصنع لوحاتٍ توحي بالرسم على لوحات البردى، مثلما توحي بالقِدم وخطوات الزمن الثقيلة فوق سطوح لوحاتها ابنة الراهن. كذلك باليت الدافئة: (البرتقالي، الأحمر)، والتطعيم الدقيق بالتركواز، اللون الذي قدّسه المصريُّ القديم، ثم توسّلها خامات إضافية مثل العجائن والقماش لتعطي الملمس الخشن، كل ذلك، عطفاً على رؤيتها الجمالية الخاصة، وطريقة إنصاتها لصوت الفنان القديم الذي سبقها ببضعة آلاف عام، ساهم بامتياز في تكريس رسالتها. «المرأة» هي البطل الرئيس في اللوحات. المرأة المصرية بشعرها الأسود الفاحم المنسدل، الذي يشكّل سوادُه معادلَ اتزانٍ لونيّ فاتن مع برتقاليات الخلفية، المرأةُ في ثوبها الأبيض الطويل المحبوك الخصر، وفتحة ذيله الطولي التي تكشف عن ساقيها وقدميها الحافيتين، المرأة في انثناء جسدها على وقع الدُّفّ تحمله بين يديها بجلال كأنما هو قرص الشمس «آتون» تقدم له رقصة الولاء. البطل الثاني في لوحات عقيلة رياض هو الطائر. والطائرُ قدّسه المصريّ القديم لأنه رمز للحياة، ورمز للحرية، ورمز لمحاولة الانعتاق من جاذبية الأرض الثقيلة المظلمة والتحليق نحو «النهار». والنهار هو رمز المصري القديم للموت كما نفهم من عنوان كتابه الأشهر: «الخروج إلى النهار»، الذي يعرفه الناس باسم: «كتاب الموتى». أما بالنسبة للوحات الفنانة المعاصرة، فربما أرادت عبر جمعها المرأة بالطائر أن تسرّب للمتلقي رسالة تقول إن المرأة العربية، تحت مظلّة مجتمع بطريركي، طائرٌ معطّلُ الجناحين، مقصوص الريش، مكتوم الصوت. مثل تلك البطةّ التي تحنو عليها السيدةُ في اللوحة، وتستحثها على النهوض والطيران كما يليق بطائر له جناحان، ولكن أنّى للبطّ أن يطير! ثم في لوحة أخرى ينجح الطائر أن يحلّق خفيضاً فتشجعه السيدة، وتصنع من يديها وسادةً تتلقّف به الطائر الذي سوف يسقط بعد برهة. تلك اللوحة تحمل البعدَ الرابع، الزمن، كما رسمه آينشتين، حتى لنكاد أن نرى المشهد متحركاً: المرأة تناجي الطائر وتقنعه بضرورة استخدام جناحيه، فهو طائر، ثم تدرّبه على الطيران ثم ينجح الطائر قليلاً، ويسقط، فتتلقفه السيدةُ، وتعيد الكرّة. وفي لوحة أخرى نجد ثلاث نساء يُمرِّنَّ الطيورَ على الطيران من طريق تمثيل فعل الطيران بأجسادهن، فينجح طائرٌ ويخفق آخر. وفي أخرى يشجعن الطائرَ على التحليق على وقع نغمات الهارب والفيولين. في أخرى تتحلّقُ مجموعةٌ من النساء حول حزمة من زهرات للوتس يتهامسن، كأنما يحكين أسرارهن لتلك الزهرة المقدسة التي نمت على ضفاف النهر تخليداً لذكرى الأسطورة التي تحكي عن الصبية الجميلة «لوتس» ابنة طبيب فرعون، التي أحبّت «كبتاح» أمير مصر، ولكن الشرَّ الساكن في العالم السُّفليّ حقد على ذلك الحب الطاهر، فأوعز للبنت أن حبيبها غرق في النهر فألقت بنفسها وراءه. كل لوحة من الأربع وعشرين لوحة في معرض عقيلة رياض بقاعة «راتب صدّيق» بأتيليه القاهرة تحكي حكاية مصرية قديمة، رُسمت بريشة مصرية معاصرة، فتنها الماضي فصنعت منه حاضراً معاصراً.