تدين الوطنية الفلسطينية، بمعناها الهوياتي والكياني والسياسي، في شكل أكبر (بين عوامل أخرى) لحركة «فتح»، كونها صعدت مع صعود هذه الحركة، التي صاغت وكرست الأفكار والرموز التأسيسية لهذه الوطنية. وبقدر ما في ذلك من صدقية ربما يمكن القول إن تفكّك، أو انحطاط «فتح» (بالمعنى السياسي)، أدى، بين متغيرات أخرى، إلى تفكّك تلك الوطنية؛ بمعناها الهوياتي والكياني والسياسي أيضاً. منذ انطلاقها بدت «فتح» أكثر حركة تشبه شعبها، بين الحركات القومية واليسارية والإسلاموية، الناشطة آنذاك، ما جعلها نقطة استقطاب وإجماع بين الفلسطينيين، في كل أماكن وجودهم. وأسهم في ذلك أن هذه الحركة لم تطرح نفسها حزباً، ولا ممثلاً لطبقة بعينها، ولم تدّع التنطّح لمشروع معين (بالمعنى الأيديولوجي أو السياسي أو الاقتصادي)، بل إنها اعتبرت نفسها حركة للشعب، بكل تياراته وطبقاته وفئاته وتوجهاته. فليس من قبيل الصدف أن هذه الحركة ضمت الفئات الأكثر فقراً وكدحاً في المجتمعات الفلسطينية (من المعدمين واللاجئين من العمال والفلاحين والحرفيين)، أكثر من أي تنظيم يساري آخر، وأنها في الوقت نفسه ضمت شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، فضلاً عن أن البورجوازية الفلسطينية (والعائلات التقليدية) محضت هذه الحركة دعمها، أكثر من أية حركة سياسية أخرى. كذلك فقد كانت هذه الحركة ضمت في صفوفها نشطاء سابقين في الأحزاب القومية والإسلامية، ومثقفين يساريين (ولا نبالغ إذا قلنا إن حجم اليسار في «فتح» كان في بعض الأوقات اكبر من بعض التنظيمات اليسارية). مع ذلك، فإن أهمية هذه التيارات أنها توحدت على مشروع «فتح»، أي على مشروع الوطنية الفلسطينية. المعضلة أن المشروع الوطني، كما حاولته «فتح»، نشأ مأزوماً، من الناحيتين الموضوعية والذاتية، ليس فقط بسبب تأخّره (بمسافة ثلاثة عقود) عن مشاريع الوطنيات العربية، وليس بحكم عدم التكافؤ في صراع موازين القوى، بينه وبين المشروع الصهيوني، فحسب، وإنما، بسبب افتقاد هذا المشروع إقليمه (الجغرافي) الخاص، ولحيزه الاجتماعي المتعين، أيضاً؛ وهما ليسا تفصيلين زائدين، وإنما عمودين أساسيين، في إنتاج أية وطنية، ولا سيما إذا تعلق الأمر بترسيخها واستمرارها. وتبع ذلك أن الهوية، وكذلك الوطنية، الفلسطينية المعاصرة تأسست وتبلورت، أصلاً، على جمهور اللاجئين في المخيمات، بدفع من مسارين اثنين: أولهما، تركز حول فعل النكبة وما نتج منها، من اقتلاع من الأرض، وتشريد من الوطن، وقطع للمسار التاريخي للحياة الاجتماعية. وثانيهما، تركز حول تعريفهم كآخر، أو كلاجئين، أو كضيوف موقتين في بلدان اللجوء (العربية)، مع ما تضمن ذلك من انتقاص في الحقوق، وفي المعاملات التمييزية إزاءهم. وبديهي، فإن وطنية، أو هوية، تفتقر الى مجالها الاجتماعي والجغرافي، وتخضع لسيادات مختلفة، لا بد من أن تكون معرضة لاهتزازات وتفككات، لا سيما إذا ضعف، أو ارتهن، حاملها السياسي. وقد ظهر بنتيجة هذا النشوء الملتبس، أو المعقّد، عاملان آخران لعبا دوراً مقرراً في هذا الاهتزاز. فالوطنية الفلسطينية لم تتعمد في مسار الصراع مع إسرائيل، فحسب، وإنما، أيضاً، في مسار الاحتكاك السلبي (الحامي وأحياناً الدامي)، مع بعض «الوطنيات»، أو السلطات العربية؛ لأسباب متفاوتة. ومن جهة أخرى، فإن الوطنية الفلسطينية وجدت نفسها في تنازع مع البعد العربي، من الناحية السياسية (الوظيفية)، وليس الهوياتية؛ إذ لا خلاف في هذا الشأن على عروبة شعب فلسطين، بقدر ما ليس ثمة تعارض بين الهويتين الوطنية والعربية. وعليه، فإن هذين العاملين السلبيين، الاحتكاك والتنازع، أسهما، أيضاً، في تعثر الوطنية الفلسطينية، وتشوّهها، لا سيما في زمن التوظيفات والانحيازات السياسية والسلطوية المتضاربة. هكذا لم يعمل الزمن تماماً لمصلحة الوطنية الفلسطينية، التي نشأت في زمن صعود الدولة الأمنية، وخارج حيزها الجغرافي والاجتماعي الخاص، والتي تأسست على الاعتماد على الموارد الخارجية، أكثر من اعتمادها على موارد شعبها، في ظروف اختلال موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية لمصلحة عدوها. ولعل معضلة القيادة الفلسطينية (وهي هنا قيادة المنظمة وفتح) انها سرعان ما وجدت نفسها معنية بطي شعاراتها لمصلحة التماثل السياسي مع النظام الرسمي العربي، ومع مقررات الشرعية الدولية في شأن قضية فلسطين. وبديهي، فإن هذا التماثل تطلب مراجعة الأفكار المؤسسة للوطنية الفلسطينية، لا سيما ما يتعلق منها بوحدة الأرض والشعب، الأمر الذي تم في إقرار البرنامج المرحلي (1974) القاضي بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع (مع حل قضية اللاجئين وفق منظور القرار 194)؛ وهي المسارات التي أفضت، في ما بعد، إلى عملية التسوية في مؤتمر مدريد (1991)، وبعده اتفاق أوسلو (1993). على رغم ذلك، فإن القيادة السائدة استطاعت تغطية هذا التحول (التماثل والمراجعة)، بحكم مكانتها النضالية الرمزية، وادعائها مواصلة المشروع الوطني، والمقاومة، وبحكم طبيعة السياسات الإسرائيلية المعادية على طول الخط للحقوق الفلسطينية. وقتها ربما أن كثيرين جادلوا (وحتى الآن) بأن هذا التحول إنما هو تعبير عن العقلانية والواقعية والموضوعية في الحركة الفلسطينية، لكن ما يضعف صدقية تفسير كهذا، أن كل ذلك لم يسرِِِ على مناحٍ أخرى في عمل القيادة الفلسطينية، بمواقفها السياسية، كما بطريقة إدارتها لصراعها مع عدوها، وبما يتعلق بإدارتها لأوضاعها. المغزى أن هذا التحول كان بمثابة الثمن، أو الطريق، الذي لا بد منه لتعويم الوضع الفلسطيني، في نوع من مساومة لجأت إليها تلك القيادة للحفاظ على وضعها (كأي سلطة مهيمنة)، ولو بثمن مراجعة الأفكار التأسيسية والتضحية بالمنجزات الوطنية، والنكوص عن المشروع الأصلي؛ وهو ما اتضح في مجمل التحولات اللاحقة، وما ميز سلوكيات القيادة الفلسطينية، من مؤتمر مدريد (الالتفاف على وفد فلسطينيي الداخل)، إلى عقد اتفاق «أوسلو» (حيث ضُيّعت المنظمة وتماهت «فتح» مع السلطة)، وإلى اللحظة الراهنة (لا خيار إلا المفاوضات!). الأنكى من كل ذلك أن الحديث عن العقلانية والموضوعية والواقعية تجاهل (عن قصد أو من دونه)، واقع أن التحولات السياسية والبنيوية في جسم الحركة الفلسطينية إنما تغذّي مشروعاً سياسياً آخر، يختلف عن المشروع الوطني الأصلي، كما أسسته «فتح»، وانبنى على وحدة الشعب والأرض؛ ما ستكون له نتائج خطرة، على قضية فلسطين وشعبها وحركته الوطنية. ويمكن تبيّن بعض مظاهر ذلك، في هذه المرحلة، في إعلاء شأن السلطة (في الضفة وغزة)، على حساب المشروع الوطني. وإننا في الوقت الذي نشهد غياباً مريعاً للمؤسسات الوطنية الجامعة لكل الفلسطينيين، نشهد نمواً للبنى المؤسسية التي تمثل او تخدم فلسطينيي الأرض المحتلة حصراً. كما يمكن تمثل ذلك بحال الضياع، والتوهان، والتمايز في المرجعيات والسرديات والرؤى، بين فلسطينيي الأرض المحتلة، والفلسطينيين اللاجئين، وفلسطينيي 1948، وفلسطينيي الأردن. لذا فالأزمة الفلسطينية ليست أزمة السلطة أو أزمة فتح وحماس، فقط، وإنما هي اكبر وأعقد وأخطر من كل ذلك. * كاتب فلسطيني