لا أنسى يوماً حاراً في كربلاء، كنا نستعد فيه لتغطية خطبة الجمعة للسيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية قبل أسبوع من اغتياله، عندما دنا أحد مرافقيه، وحسبت أن الحديث عتاب معتاد حول تغطيات الجزيرة في العراق. لكنه فاجأني بسؤال ومداعبة في الوقت نفسه: «من أين تأتي الجزيرة بالمذيعات الجميلات؟». تبسمت، وقلت له إن من حسن الحظ أن تجد ما يعجبك في القناة. والواقع أن مداعبة المرافق والتي يشاركه فيها كثير من متابعي القناة الأكثر مشاهدة ظلت عقدة في منشار منتقدي القناة الذين يصفون ب «الإسلامية» و «المحافظة» وصولاً إلى «التشدد». غير أن استقالة خمس مذيعات في الجزيرة على خلفية «التضييق» عليهن، شكلت دليلاً إضافياً دامغاً لمصلحة مصنّفي القناة... وحظيت باهتمام إعلامي غير مسبوق عربياً، مع أن العالم الغربي اعتاد على ملاحقة أخبار الإعلاميين حتى في حياتهم الخاصة، كما حصل في خلاف لاري كينج مذيع ال «سي أن أن» مع زوجته أخيراً. في الأردن، البلد الذي اتسمت علاقته، رسمياً، مع الجزيرة بالتوتر وأغلق مكتبها مرتين، شكلت استقالة المذيعات خبراً رئيساً في التلفزيون الأردني، في الوقت الذي كان أكثر من عشرين مواطناً أردنياً، جلّهم قادة مجتمعيون، على متن «قافلة الحرية» يواجهون الموت في عرض البحر. انشغل التلفزيون الأردني بخبر استقالة مذيعات الجزيرة بسبب «التضييق» على مظهرهن ولباسهن، وبث الخبر في النشرتين الرئيستين. مع أن مذيعات التلفزيون الأردني أكثر محافظة في لباسهن و «التضييق» عليهن ليس أقل مما هو في الجزيرة. شكّل اهتمام التلفزيون الأردني استثناء، فلم يحظ الخبر بتغطية تلفزيونية في غيره، وإن شكّل مادة تصدرت عدداً من الصحف والمواقع الإلكترونية. لم يستغل الخبر لنقد التعامل مع جسد المرأة على الشاشة عالمياً أو عربياً، بل كان مدخلاً ل «مكايدة» الجزيرة التي كادت كثيرين، إذ إن المدير العام للتلفزيون الأردني صالح القلاب كان قد شتم في صحيفة «الرأي» الرسمية مذيعات الجزيرة بأقذع الشتائم التي تمس أخلاقهن في غضون مرحلة التوتر مع القناة. أُلفت كتب عن «الجزيرة» ونوقش كثير من رسائل الدكتوراه والماجستير عنها، وقلّ أن يمر يوم من دون ملاحظة لها أو عليها في الصحافة العربية والعالمية. لكن موضوع لباس المذيعات (باستثناء حجاب خديجة بن قنة) لم يكن ضمن الاهتمامات، باستثناء التلميحات الخفيفة التي «تتغزل» بحسنهن وتشيد بمظهرهن، وقلّ أن تجد مذيعة في الجزيرة لم تحتل غلافاً للمجلات النسائية المهتمة بالموضه والجمال. والواقع أن قضية المرأة ظلمت – كالعادة - بداعي السجال السياسي مع الجزيرة. فالقناة وفي معزل عن الانتقادات المحقة والباطلة في خطها التحريري والسياسي، يسجل لها أنها قدمت نموذجاً رفيعاً للمرأة العربية بعيداً من التركيز على جسدها. فهي لا تشترط الحجاب، وفي المقابل لا تستثمر في جسد المرأة وتسلّعه. التركيز ظل على عقل المرأة ومضمونها مع إعطائها حرية اختيار اللباس. ولا توجد محطة في العالم لا تطبق معايير في لباس النساء والرجال على السواء. وبسبب حداثة التجربة الإعلامية العربية، فإن تلك المعايير لا تكون دقيقة ولا مكتوبة، ولا تسندها أعراف مستقرة. ومعايير اللباس في الغرب تطبق في المدارس والمؤسسات الرسمية والخاصة أحياناً. ربما حصل تعسف من مسؤول في الجزيرة في تطبيق المعايير، فهل تتحول القناة إلى عدو للمرأة؟ هذا هو التعسف في الخصومة مع القناة. أعمل منذ عقد في القناة. تعاملت مع مذيعات وصحافيات فيها، اثنتان فقط تحجبتا بقرار ذاتي منهما، المذيعة خديجة بن قنة والصحافية الراحلة أطوار بهجت. وقبيل الاستقالة بأسبوع كانت الجزيرة تبث سلسلة تقارير للزميلة غير المحجبة مريم أوباييش من معاقل طالبان في قندهار، وتناولت التقارير شجاعة المرأة الأفغانية التي تدرس وتتعلم تحت تهديد القتل. وقبلها ما إن سقط نظام طالبان حتى أوفدت القناة الزميلة ميا بيضون إلى كابول. وكان في إمكان القناة أن تجامل محافظة المجتمع الأفغاني وتشدد طالبان وتكتفي بإرسال الذكور إلى أفغانستان. وفي غضون الاستقالات، تسافر مراسلة الجزيرة وسيمة بن صالح المحجبة، والتي تتحدث خمس لغات، ضمن قافلة الحرية، وتسافر من بلد الى آخر وتكون شاهدة على المجزرة الإسرائيلية في عرض البحر، وتُعتقل وهي تقوم بمهامها الصحافية... فهل هذا استلاب لجسد المرأة؟ وأيهما يحرر الجسد: أن تعمل المرأة باعتبارها صحافية في معزل عما تلبس، أم ان يكون جسدها مطلباً بذاته فيُعرّى ويُشدّ ويُنفخ وفق ما يطلبه الجمهور الذكوري؟ * صحافي أردني في «الجزيرة»