فيما كانت حركة «حماس» تتكيف مع الظروف والتعقيدات الأمنية والجغرافية والسياسية الاستثنائية، وتعقد مؤتمرها الذي أعاد صياغة مؤسساتها الحزبية، بما في ذلك انتخاب مكتبها السياسي، والمؤسسات الحركية الأخرى، ظلت حركة «فتح» تراوح في مستنقع أزمتها المركَبة، وتتخبط في دهاليز عناوين مؤتمرها السادس والإشكالية «الإجرائية» المتعلقة بمكان وزمان عقده وعدد أعضاء المؤتمر الذي يواجه رزمة من الاستحقاقات والمهام الدسمة التي أفرزتها الأحداث الجسام طوال العشرين عاماً الماضية. ما تسربه أوساط «فتح» بخصوص الصعوبات الذاتية والموضوعية التي تعترض عقد المؤتمر السادس ينصب، في شكل أساسي، على عنوانين رئيسيين: معضلة المكان التي تحمل مضموناً سياسياً ومشكلة إدارية - تقنية، وعضوية المؤتمر التي يشاع أن ثمة صراعاً واسعاً في شأنها، بعد خضوع اللجنة الخاصة بها للعديد من الاعتبارات التي أدت إلى تقليص عديد المؤتمر إلى 1200 عضو بعد شطب 300 اسم، ومن ثم رفعه إلى 1700 عضو، قبل أن يتقلص، مرة أخرى، إلى 650 فقط، وهو رقم يبدو أنه غير نهائي حتى الآن. وتحت هذين العنوانين تتكدس أكوام من المشكلات والحيثيات التي يدور النزاع في شأنها بين مراكز القوى والمصالح من أجيال الحركة وتياراتها المختلفة في الداخل والخارج. حيث أن اختيار المكان الذي يتأرجح بين الضفة الغربية ومصر والأردن، وعلى رغم أنه لم يحسم حتى الآن لأسباب مختلفة، ينطوي على الكثير من المعاني والدلالات، ويشي بشكل وطبيعة المؤتمر ونتائجه قبل عقده، ولا سيما طبيعة ومستقبل الحركة وبرنامجها السياسي. فيما يرى مناهضو تقليص عديد المؤتمر أن ذلك يعني، عملياً ووفق النظام المعتمد، ترجيح كفة «الحرس القديم» على حساب مرشحي «الجيل الجديد» الذين تم انتخابهم عبر مؤتمرات حركية. أي، بكلام أدق، أن الجيل القيادي الحالي (الحرس القديم وجيل الاستمرار) سيحظى بثلثي أعضاء المؤتمر، مع وعد بمؤتمر لاحق سابع، خلال سنتين. هذا الغيض من فيض الإشكالات التي تواجه استحقاق المؤتمر، يؤشر إلى حجم التعقيدات التي تواجه «فتح»، وتالياً المشروع الوطني الفلسطيني الذي اكتسب ملامحه خلال العقود الماضية على يد الحركة التي تعتبر الأعرق في بلورته من خلال منظمة التحرير، وحماية قراره المستقل، وذلك بعد إقدام القيادة على تهشيم نظام الحركة الأساسي، وتجاوز برنامجها، عقب توقيع «اتفاق أوسلو» الذي دفع إلى الأخذ بمبدأ التسوية السياسية كخيار استراتيجي أوحد، وتعبيد الطريق أمام ظهور شريحة سلطوية ذات مصالح فئوية خاصة، ما أسهم في تشرذم الحركة التي تحولت إلى بنى متباينة هشة يسودها الارتباك والتردد والضبابية، تنظيمياً وجماهيرياً وسياسياً. وهو ايضاً ما أفسح المجال أمام تراجع دورها داخلياً وإقليمياً ودولياً، وظهور وتمدد حركة «حماس» التي استفادت من سقوط المشاريع والرؤى القومية واليسارية في نهاية الثمانينات، وكذلك من ترنح المشروع الوطني الفلسطيني في حلبة أوسلو وتداعياتها، وفقدان «فتح» الكثير من شرعيتها الثورية والانتخابية، في مقابل انتعاش العدوانية الإسرائيلية التي تماهت مع المشروع الإمبراطوري الأميركي وخطابه المتعلق بالإرهاب وضرورة مواجهته والقضاء عليه بكل الوسائل الممكنة. من السهل، بطبيعة الحال، اجترار ورصف عبارات الإنشاء اليقينية حول قدرة «فتح» ذات التاريخ النضالي الطويل، والتي قدمت، زعيمها وأكثر من ثلث أعضاء لجنتها المركزية، فضلاً عن آلاف الكوادر، شهداء على مذبح الاستقلال الوطني واستعادة الحقوق الفلسطينية المشروعة، على تجاوز أزمتها، والنهوض من بين الرماد، غير أن الأمنيات والرغبات شيء والواقع شيء آخر، إذ أن عملية استنهاض ما كان يسمى العامود الفقري للثورة الفلسطينية التي باتت تعتبر شأناً وطنياً كونها تساهم في إعادة اللحمة إلى الصف الوطني، بعد نزع ذرائع «حماس» التي بررت انقلابها في غزة بالفلتان الأمني وبمن أسمتهم «الفريق الانقلابي»، ووضع حكومة نتانياهو التي تعمل على نسف أسس حل الدولتين، والعودة إلى مشروع الحكم الإداري الذاتي، أمام معادلة فلسطينية جديدة. هذه العملية تعترضها عقبات نوعية من العيار الثقيل، فبالإضافة إلى معوقات الانقسام والتعنت والعدوانية الإسرائيلية المنفلتة من عقالها، والحالة الإقليمية المشبعة بصراعات المحاور، والوضع الدولي الرجراج الذي يصعب تلمس اتجاهات سيره تحت وطأة الأزمات الكبرى الماثلة، ثمة ملفات داخلية معقدة في أوساط الحركة يمكن لأي منها أن يثير زوابع عاتية. الأبرز في هذه الملفات التي تستدعي الشفافية والمحاسبة، هو ملف «اغتيال» الزعيم الراحل ياسر عرفات؛ والملف المالي الخاص بممتلكات واستثمارات وأموال الحركة الضائعة والتي تسجَّل حتى الآن على «ذمة مجهول»؛ وملف هزيمة «فتح» في انتخابات المجلس التشريعي التي جرت في كانون الثاني (يناير) 2006؛ وملف هزيمة «فتح» في قطاع غزة في مواجهة انقلاب «حماس» في حزيران (يونيو) 2007، وخسارة «فتح» علاقاتها الخارجية التي يرأس مكتبها عضو اللجنة المركزية للحركة عبد الله الإفرنجي، ناهيك عن تهميش الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي يرأسها عضو اللجنة المركزية ل «فتح» فاروق القدومي. كل ما سبق، يجعل من مؤتمر «فتح» المرتقب، في حال عقده ولو بعد أسابيع أو حتى أشهر، مناسبة مفصلية لطرح السؤال الجوهري: هل ستتمكن «فتح» من متابعة المسيرة، وإجراء مراجعة جادة ومسؤولة لبنيتها وبرامجها وممارساتها وأساليب عملها، أم إنها ستعوم فوق أمواج صراعات مراكز القوى