كنت في البرازيل في الأسبوع الماضي، للمشاركة وإلقاء كلمة في الدورة الثالثة للمنتدى العالمي لتحالف الحضارات، التي عقدت في مدينة ريودي جانيرو. كما شاركت في المائدة المستديرة التي نظمتها اليونسكو في إطار المنتدى حول «التعليم من أجل مواطنة متعددة الثقافات». وقد افتتح المنتدى الرئيس البرازيلي لولا داسيلفا، وحضر حفل الافتتاح عدد من رؤساء دول أميركا اللاتينية، والأمين العام للأمم المتحدة، ورئيس وزراء تركيا، ووزير خارجية إسبانيا، والشيخة موزة بنت ناصر المسند، حرم أمير دولة قطر، والأمير سعود الفيصل وزير الخارجية في المملكة العربية السعودية، وعدد كبير من الوزراء والشخصيات الدولية والثقافية والأكاديمية من شتى دول العالم. وكان من الملاحظ في المنتدى محدودية الحضور الأفريقي الذي اقتصر على وفد جمهورية السينغال، ووفود ثلاث دول أفريقية ناطقة بالبرتغالية. وكنت قد شاركت في الدورتين السابقتين للمنتدى العالمي لتحالف الحضارات، الأولى المنعقدة في مدريد (2008) والثانية المنعقدة في اسطنبول (2009). وفي كلتا الدورتين، وجهت نداء باسم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) إلى المجتمع الدولي لمواصلة دعم العمل الإنساني المشترك من أجل تعزيز الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، وإلى الاستمرار في بذل الجهود الحثيثة على شتى المستويات لنشر ثقافة العدل والسلام والحوار الثقافي والتحالف الحضاري. ولا شك في أن المرحلة الحالية الدقيقة التي يمرّ بها العالم، تؤكد الحاجة إلى نشر رسالة التحالف بين الحضارات وتعزيز الحوار بين الثقافات والأديان كلها، فقد أثبتت التجربة أن فلسفة التحالف بين الحضارات التي خرجت من طور التنظير العقلي والتأصيل الفكري إلى طور التنفيذ العملي، تحمل رسالة سلام إلى العالم، وتحفز الإرادات الخيّرة للعمل من أجل التغيير نحو الأفضل في مجالات الحياة الإنسانية. لكن هذه الرسالة الحضارية تحتاج إلى نشرها في أوساط الجماهير الواسعة في العالم كله، من خلال وسائل الإعلام، ومؤسسات التعليم والثقافة، ومنابر الوعظ الديني، حتى تصبح ثقافة يومية راسخة في قلوب الناس ومطبّقة في سلوكهم وتعاملهم. وانطلاقاً من اقتناع الأطراف المشاركة في المنتدى بأن التطبيقات الفعلية لمبادئ التحالف وقيمه المثلى، لا تزال محدودة التأثير في شكل كبير، ولا بد لها من أن تستند إلى قاعدة عريضة من ثقافة الحوار بمدلولاته العميقة، بحيث تكون تجسيداً لها في مشاريع تعبّر عن رسالتها الحضارية الإنسانية، فإن المهمات الكبيرة التي تنتظر المنتدى العالمي لتحالف الحضارات، تتطلب من المجتمع الدولي عموماً، مضاعفة الجهود لبلورة مفاهيم التحالف، ولترسيخ مبادئه، ولتفعيل رسالته الحضارية من خلال دمجها ضمن السياسات الوطنية لدول العالم. إنَّ العالم اليوم يتطلع إلى المنتدى العالمي لتحالف الحضارات، ويرى فيه أملاً مشرقاً آن الأوان لأن يتحقق. فليس المراد من التحالف بين الحضارات أن يكون ترفاً، أو أطروحة تنشغل بها النخب الثقافية والفكرية في هذا العصر، ولكنه ضرورة من ضرورات الحياة الآمنة المستقرة فوق هذا الكوكب، وهو إلى ذلك مسؤولية الحكومات والمنظمات الدولية، ورسالة النخب الفكرية والثقافية والإعلامية في العالم. ولذلك، فإن من مقتضيات هذه الضرورة ومن متطلباتها، أن تتوافق الإرادة الدولية من أجل تضمين مبادئ تحالف الحضارات في ميثاق الأممالمتحدة، أو أن يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، إعلانٌ عالميٌّ حول تحالف الحضارات، يكون بمثابة الغطاء القانونيّ الدوليّ للعمل الكبير الذي ينهض به هذا المنتدى العالمي. ومن أجل حشد جهود المجتمع الدولي لتنفيذ خطة العمل التي اعتمدها المنتدى العالمي لتحالف الحضارات في دورتيه الأولى والثانية وما أسفرت عنه دورة ريو دي جانيرو من قرارات وتوصيات ولترشيد مسار التحالف، يتعيّن إشراك ممثلين لحضارات العالم في إدارة التحالف ورسم سياساته وبرامجه، وتوظيف قدرات المنظمات الدولية المتخصصة التي تعمل في إطار الأممالمتحدة، لتعزيز الجهود التي يبذلها هذا المنتدى العالمي، على شتى المستويات، من أجل الانخراط في تنفيذ هذه الخطة الدولية. فقد تبين في شكل واضح لجميع المشاركين في الدورة الثالثة لهذا المنتدى، قصور الممثلية المشرفة عليه، وعدم وجود تمثيل متوازن لحضارات العالم فيها. كما أنه ينبغي الاهتمام بالتربية الحاضنة للقيم في تعزيز ثقافة التحالف والحوار بين الحضارات، والتأسيس لبناء نظام عالمي جديد، يقوم على قواعد راسخة من التعايش الثقافي والتحالف الحضاري، اللذين يجمعان بين شعوب العالم، ويوفران لها أسبابَ التقدم والازدهار على شتى المستويات. فالتربية هي الحقل الذي تصنع فيه العقول وتصاغ فيه الضمائر. والحوار بين الثقافات، يبدأ فكرةً في العقل ثم تنمو وتنضج، لتصبح منهجاً في الحياة، وأسلوباً في السلوك، ومبدأً يؤمن به الإنسان فينفتح على الآخرين، ويندمج معهم، ويتفهم ثقافاتهم، ويتعرَّف الى حضاراتهم، ثم يقبل على الحوار معهم، فينتج من ذلك الحوار القائم على أسس راسخة، تفاهمٌ واحترامٌ متبادلان وتعايشٌ مثمرٌ بنَّاء. والتربية إلى ذلك كله، هي القاعدة العريضة لبناء الإنسان الجديد الذي يؤمن بقيم الحوار والتفاهم، وبثقافة العدل والسلام، وبمبدأ التسامح والتعايش، منهجاً في الحياة، وأسلوباً في التعامل، ونمطاً للعيش. إن التربية هي الأساس في العملية التعليمية، فلا تعليم جيّداً منتجاً وفاعلاً ومؤثراً في الحياة، إن لم يقم على قاعدة متينة من التربية البانية للعقل وللوجدان وللضمير، التي هي قوة الدفع للحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات. وإذا كان الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات قد أصبحا اليوم أحدَ المرتكزات للعلاقات الدولية في هذا العصر، فلأن ذلك يلبي حاجة ملحّة تقتضيها المصلحة الإنسانية العليا، في هذه المرحلة التي يجتازها العالم، حيث تتزايد التحديات التي تواجه الضمير الإنساني، وتتفاقم المشاكل التي تقلق المجتمع الدّولي. وهو الأمر الذي يستدعي تضافر الجهود على كل المستويات، لتعزيز الحوار الثقافي وتعميق مفاهيم التحالف الحضاري. إن الرسالة التاريخية التي يتوجّب على الأسرة الدولية جمعاء النهوض بها في هذه المرحلة، وفي المراحل المقبلة، هي دعم الجهود التي تبذل، سواء على مستوى اليونيسكو، أو مستوى الإيسيسكو والمنظمات الإقليمية الأخرى ذات الاختصاص، لتطوير منظومة التربية والتعليم في دول العالم، بخاصة في الدول النامية وضمنها دول العالم الإسلامي، من أجل إعداد أجيال جديدة مقتنعة بقيم الحوار والتحالف والاحترام المتبادل بين جميع البشر والاعتراف بالاختلاف في الثقافات والحضارات والأديان، لأن الاختلاف سنّة الله في خلقه. ومن الضروري لضمان نجاح التحالف بين الحضارات، العمل على معالجة بؤر التوتر في العالم، وإنهاء الاحتلال الأجنبي والعدوان على الشعوب وغمط حقوقها، وفي مقدم ذلك الاحتلال الإسرائيلي الغاشم للأراضي الفلسطينية والسورية، والاعتداء على المقدسات الإسلامية في القدس، وسياسات تهويدها وتزييف تاريخها، وحرمان الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة. فهنا مكمن الشر ومنطلق الخطر اللذان يهددان تحالف الحضارات ويفشلان كل الجهود الخيرة والمبادرات الحسنة. وهذا هو السبيل لبدء مرحلة جديدة في التحالف بين الحضارات. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو.